القرآن يهدي
ذكر الله تعالى قصة الإسراء ، وهي في ذاتها معجزة حسية مادية لا تقل عن معجزة إحياء الموتى بإذن الله ، وقارنها في الزمن معجزة شق القمر ، وإنه انشق قسمين رآه أهل مكة ، ورآه المسافرون ، ومع ذلك ازدادوا كفرا ، وقالوا:{. . .سحر مستمر ( 2 )} [ القمر] وفي معجزة الإسراء ازدادوا كفرا .
ودل هذا على الخوارق التي تحدث ثم تنقضي ولا تدوم لا تكون لخاتم النبيين الذي تكون حجته دائمة بدوام دعوته ، واستمرار هدايته ، ولا يكون ذلك إلا لقرآن يتلى ، ويكون حجة دائمة لا تنقضي ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين يتحدى الإنسانية كلها بالمعجزة الكبرى التي تتضاءل عندها كل المعجزات من قبل ، وهي القرآن ، فقال تعالى بعد الإسراء وما تبعه:
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( 9 ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( 10 )} .
الإشارة{ هذا} كانت بالقريب ، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين ، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات الله تعالى ؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله ، والمشركون يفتلون الذروة والغارب{[1411]} ليردوا دعوته ، وهو مع ذلك يسرى في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم ، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية .
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى{ يهدي للتي هي أقوم} أقوى أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا ، فيحمل في نفسه برهان صدقه ، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته ، وقال الزمخشري:إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره . ونقول:إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة ، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد ، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدي للتي هي أقوم ، وملة التوحيد التي هي أقوم ، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان ، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كلما هو خير في ذاته ، وخير في دلالته ، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول ، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع ، وحال الأسرة ، وحال الإنسانية ، وكل هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته ، معاشه ومعاده .
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن ، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه ، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين ، فقال تعالى:{ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولادهما:الإيمان ، وثانيتهما:العمل الصالح ، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما ، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق يلزمهما العمل الصالح لا محالة ، وقال تعالى:{ يعملون الصالحات} بالجمع لتنوعها وكثرتها فهي وإن ضبطها ضابط الصلاح مفترقة متنوعة ، فالإصلاح بين الناس ، والمعاملة الحسنة ، والوفاء بالعهد ، وغير ذلك من مكارم الأخلاق ، والبعد عن ضلالها .
وذكر سبحانه أنه يبشر المؤمنين الصالحين ببشارتين:
البشارة الأولى:أجر كبير ، ونكر الأجر لعظمه ، ولتذهب النفس في تقديره مذاهب شتى ، مع ملاحظة أنه أجر وثواب ، ثم وصفه سبحانه وتعالى بالكبر الذي لا حد له .
البشارة الثانية:وهي قوله تعالى:{ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} وكيف تكون هذه البشارة لأهل الإيمان ؟ الجواب عن ذلك أن البشارة بالنجاة منها ، وأنهم لم يتردوا تردية الذين لا يؤمنون بالآخرة ، بل وقاهم الله تعالى ، وبذلك يتبين أن ذكر عذاب الذين لا يؤمنون جاء تبعا لإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ونذكر هنا أمرين يتعلقان ببيان الذكر الحكيم:
الأمر الأول:
قوله تعالى:{ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة} معطوفة على قوله تعالى:{ أن لهم أجرا كبيرا} فالباء مقدرة في قوله:{ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي وبأن الذين لا يؤمنون ، فالبشارة لأهل الإيمان ابتداء ، وهي تتضمن الإيذاء للكافرين ، فهي قد اشتملت على التبشير والإنذار ، ويبدو أن ما سبق له القول هو التبشير ، والإنذار جاء بالتضمن .
الأمر الثاني:أنه سبحانه وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، فلم يذكر شركهم وفسادهم للمؤمنين مع أن هذه جرائم الكفر ، والجواب عن ذلك أنه ذكر السبب ، وذكر السبب ذكر للمسبب ؛ ذلك أن كفر الكافرين وشركهم وعنادهم ، وفتنتهم المؤمنين ، وغوايتهم ، سبب ذلك كله أنهم لا يؤمنون بالبعث واليوم الآخر ، ولو آمنوا به لاتجهوا إلى الحق كما اتجه المؤمنون ، وقلنا:إن فيصل التفرقة بين قلب المؤمن وقلب الكافر ، أن المؤمن سكن قلبه الإيمان بالغيب وما وراء الحس والمادة واليوم الآخر ، أما قلب الكافر فلا يسكنه إلا المحسوس والمادة ، فلا يؤمن باليوم الآخر .
وقد ذكر عذاب الكافرين ، فقال سبحانه:{ أعتدنا لهم عذابا أليما} أي هيأنا لهم عذابا أليما أي مؤلما ، وهو عذاب الجحيم ، وكان التنكير لتكبيره ، وتهويلهم به ، وإنه لصادق .