وقد بين سبحانه أن الشر كثير في هذه الدنيا ، فقال عز من قائل:
{ وربك العفو ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل أنهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا 58} .
{ وربك} عبر بربك الإشارة إلى أنه الخالق المربى القائم على عباده ، القيوم على أمورهم{ الغفور} الذي من شأنه المغفرة لعباده يعفو عن كثير ولا يأخذ بكل ما فعلوا ، وقدمت المغفرة على المغفرة على الرحمة ، لأن التّخلية مقدمة على التحلية ، فالتطهير مقدم على التجميل ، وقوله تعالى:{ ذو الرحمة} و( ذو ) بمعنى صاحب ، فالمعنى صاحب الرحمة ، أي أن الرحمة تلازم ذاته العلية وتختص بها ، فلا رحمة إلا منه ، وغيره لا رحمة عنده فالله وحده هو الذي يملك الرحمة وما عند غير الله لا يعد رحمة بالنسبة لما عنده ، إنما يكون أمرا نسبيا ، والرحمة الحق لا تكون إلا من عند الله ، فهو خالق الوجود وخالق الرحماء ، فكل رحمة هي منه .
وإن من رحمته مغفرته ، ومن رحمته أنه يمهل حتى تكون التوبة النصوح ، وتوبة العبد أحب إليه ، ومغفرته أقرب عنده ، ولذا قال سبحانه:{ لم يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب} هذه الجملة السامية كالنتيجة لكون الله تعالى غفورا ذا رحمة ، إذ إنه لذلك لم يؤاخذهم بما كسبوا من شر مستطير وقت أن وقعوا بل أمهلهم وأعطاهم زمانا للتوبة ، أو لمضاعفة ما يقترفون ، ولأنها نتيجة لما قبلها كانت غير متصلة بها بالعطف ، وعبر سبحانه وتعالى بالماضي في قوله تعالى:{ بما كسبوا} للإشارة إلى أنه كثير يكفي لأشد العقاب ،{ لعجل لهم العذاب} وتعجيل العذاب هو العذاب الدنيوي ، وهذا يشير إلى أن أهل مكة ارتكبوا من الشر بالكفر ، والإيذاء والفتنة في الدين والاستهزاء بآيات الله وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ما يستحقون به أشد العذاب ، وأن ينزل بهم ما نزل ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون محمد خاتم النبيين ، وأن تكون رسالته دائمة بمن يؤمنون ، فلا ينزل سبحانه وتعالى عقابا بهم ، ولا يصيب الذين كفروا خاصة ، ولذا قال تعالى:{ بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا} الإضراب في{ بل} هو عن نتائج الشرطية السابقة لرد ما بعدها ،{ لهم موعد} وهو أن ينزل بهم العقاب الدنيوي بالجهاد وأن يديل منهم ، ثم بعده العقاب الأخروي ، وكلاهما له موعد لا يتقدم ، ولا يتأخر ، ولا محيص عنه{ لن يجدوا من دونه موئلا} ، أي ملجأ فهو نازل بهم في ميقاته ل خلاص لهم منه ، وأمامهم العبر ، يعتبرون بها ، ولذا نبههم الله تعالى إليها فقال:
{ وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا 59} .