قصة ذي القرنين
ذكر الله تعالى في هذه السورة ثلاثة أمور غريبة:
الأمر الأول:أمر أهل الكهف ، وهو رؤية حسية يراها الناس كيف يجعل بعض الناس بين الموت والحياة إكراما لجهادهم ، وهو تصوير لشهداء الحق كيف يكونون بين الحياة والموت ، حتى ينالوا جزاءهم جزاء موفورا .
الأمر الثاني:كما ذكرنا قصة عبد صالح أتاه الله بعض العلم بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ، وما يشاء أن يعطيه بعض ما يعلم من عباده الأطهار فأعطى عبده الصالح بعض ذلك ، وفي ذلك بيان أن قدر الله تعالى بني على الحكمة الكاملة فقد يحسبه أهل العلم بالظاهر شرا ، وهو عند الله تعالى له عواقب كلها خير .
الأمر الثالث:قصة رجل صالح من نوع غير نوع رجل موسى عليه السلام ، وهو رجل خير تهيأت له الأسباب فاختار طريق الخير ، وألهم العمل الصالح من غير تعليم من لدن الله ، بل بتوفيق الله تعالى وتيسيره وجهاده وإرادته الخير ، ومثل من كان صالحا بهذا العمل الإرادي ، والعبد الصالح كمثل اثنين أحدهما أوتي علما من علم القدر يسجل نتائج الأعمال ، كما قدرها الله مرتبة على ما فعل ، والثاني أوتي قدرة بتوفيق الله تعالى وإذنه على أن يقوم بعمل في مصلحة مؤكدة ونفع مؤكد يفعله قاصدا إليه ، وهو في هذا يكافح أهواءه ، ويقصد الخير قصدا واضحا بينا ، والكل بفضل الله وإذنه وتيسيره وتوفيقه .
{ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكر 83} .
السائلون هم المشركون بتعليم من اليهود ، أو من اليهود مباشرة ، فقد جاء في كتب السيرة أن اليهود قالوا للمشركين ، سلوه عن الروح وعن العبد الصالح ، وعن رجل ملك وكان صالحا ، وجاء أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهو بالمدينة .
ونحن نرجح أن المشركين سألوا بتحريض من اليهود ، لأن السورة مكية فالأقرب أن تكون المجادلة بينه وبين المشركين في مكة وهم قد يستعينون في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكتاب .
ومهما يكن فالسؤال وقع ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الملك الصالح المعروف باسم ذي القرنين ، فالسؤال كان عن شخص بعينه ، وكان من أوصافه كما يدل سياق الآيات على أنه كان ممكّنا ، وأنه حكم في مشرق الأرض ومغربها ، وأنه ابتدأ في حكمه بالمغرب ، وأنه كان عادلا يجزي المسيء جزاء إساءته ، ويجزى المحسن جزاء وفاقا لإحسانه ، وأنه كان مرجع الذين يؤذون من بعض بني الإنسان ، وأنه أقام سدا بين الأشرار ومن يتأذون منهم .
وكان من حقنا أن نكتفي بمعرفة صفاته وأفعاله ولا نحتاج في فهم ذلك إلى معرفة شخصه أو من أي قبيل هو ، فإن ذلك لا يزيد علما بالقرآن ومعانيه ، كما لا يهمنا شخصية فرعون موسى ، ولا في أي قرن من الزمان كان بعثه .
ولكن المفسرين تعرضوا لمعرفة شخصه ، فقال قائل:إنه كان في عصر إبراهيم ولا مستند لهذا القول ، وقال آخرون مستندين إلى بعض آثار منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم:إنه الإسكندر المقدوني باني الإسكندرية حوالي سنة 300 قبل ميلاد المسيح عليه السلام ، وعلى هذا الرأي أكثر المفسرين الذين تصدوا لذلك ، ولكن قام على هذا الرأي ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول:أن هذه الآثار لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها ابن جرير ، وكذبها الحافظ ابن كثير .
الاعتراض الثاني:أنه كما ذكر في عبارات القرآن كان موحدا ، حتى ادعى أنه نبي ، والإسكندر المقدوني المعروف عنه أنه كان يدين بوثنية اليونان والرومان .
الاعتراض الثالث:أنه سمى في القرآن بأنه ذو القرنين ، ولم يكن المقدوني ذا قرنين ، ولم يسمّ ذا القرنين .
وقد أجيب عن الثاني بأن كونه كان في قوم وثنيين لا يقتضي أن يكون وثنيا ، فالنجاشي كان في النصارى ، وكان مؤمنا موحدا ، فإذا كان القرآن ذكر ذا القرنين مشيرا إلى أنه موحد ، فليس في أخبار المقدوني ما ينفى وحدانيته .
وكون المقدوني لم يكن ذا قرنين لا يدعى أنه كان ذا قرنين ، وإن كان اسمه كذلك ، على أن المقدوني كان يجوز أن يسمى ذا القرنين ، وكان يلقب بذلك ، لأنه اتخذ شعارا ذا تاجين ، إذ إنه عندما فتح مصر لبس تاج الشمال وتاج الجنوب رمزا لاجتماع الإقليمين تحت سلطانه ، فكان شبه قرنين .
وفي الحق أنه لو صدقت الرواية عن النبي بأنه باني الإسكندرية ما عدلنا عن هذا القول ، لأنه يكون تفسيرا للقرآن بالسنة وهي المبينة للقرآن .
وهناك قول قاله العلامة الهندي أبو الكلام زاده وهو أنه غورش الفارسي الذي أنقذ بني إسرائيل من أسرهم في بابل ، فقد وصف في التوراة التي بأيدينا في سفر دنيال وغيره بأنه لقب 'ذو القرنين"لعظيم قوته واتساع ملكه وقوة سلطانه .
ويقرب هذا أنه ينطبق عليه الوصف المذكور في القرآن ، وأن السؤال كما جاء في القرآن الكريم منبعث من اليهود ، سواء وجهه اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، أم وجهوه عن طريق المشركين كما اخترنا ورجحنا ، وأما ملكه فقد كان في وسط بين غرب آسيا وشرقها وأنه اتجه بسلطانه إلى الغرب ، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الشرق ، كما يومئ القرآن الكريم ، إذ إنه ابتدأ بذكر عمله في الغرب ثم في الشرق ، وإنا لا نختار رأيا لأننا لا نحتاج إليه في تفسير القرآن الكريم لأنه واضح المعنى ولو لم يعرف قبيل ذي القرنين .
هذه هي النظرة إلى شخص ذي القرنين ، وإن كانت معرفة شخصه لا تزيد القرآن بيانا ، بل العبرة في خبره ثابتة ولم لم يعلم جنسه وقبيله .
وقوله:{ قل سأتلو عليكم منه ذكرا} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في{ قل} ، والخطاب في{ عليكم} للمشركين السائلين ، للاعتبار ، لأنه خبر رجل صالح ، ممكن فأقام العدل ، وأقام المصلحة ، ونفع الناس . قوله تعالى:{ سأتلو عليكم منه} ، أي من خبره{ ذكرا} ، أي خبرا يكون فيه تذكير لكم بوجوب التوحيد ، وترك عبادة الأوثان ، وإقامة العدل ، ونفع الناس بدل إيذائهم ، والتعبير ب{ سأتلو} ، أي سأخبركم بخبره وأقص عليكم قصصه ، والتعبير ب ( أتلو ) يشير إلى أنه قد نزل فيه قرآن وما أقص هو قرآن صادق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، لأنه تنزيل من حكيم حميد .