وإنه بعد أن نبّه إلى أن الأوثان تتقاصر عن مقام الألوهية ، بل حتى الإنسانية ، بل الحيوانية أخذ يوجهه إلى الحق الكامل ، فقال في رفق أيضا كما ابتدأ أولا مصدرا القول بخطاب المحبة الراجية{ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا 43} .
يقول العلماء التحلية قبل التخلية ، بين أن الأوثان عاجزة في ذاتها عن جلب النفع ودفع الضرر ، وذلك كاف للامتناع عن عبادتها ، فإنما يعبد العاقل من هو أعلى منه قدرة وفهما وإدراكا ، وهذه دونه في الخلق والتكوين ، فمن يعبد ؟ أخذ يبين له المعبود فقال بنداء المتوسل المتحبب:{ يا أبت إني قد جاءني من العلم} لم يرم أباه بالجهل ، وقد منعه الخلق الودود من ذلك ، بل قال له{ جاءني من العلم} والمعرفة{ ما لم يأتك} تعفف عن أن يرميه بالجهل ، وتعفف عن ادعاء العلم الكامل حتى لا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه ومستعليا عليه ، بل قال:{ من العلم} ، أي بعض العلم ، وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق ، وذكره العلم داع لأن يتبعه ، لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم ، ولو كان أعلى منه ، وإذا كان له بعض الذي يسره ، ولا يضره ، فإنه يتبعه ، ولذا قال:{ فاتبعني أهدك صراطا سويا} ( الفاء ) هنا تفصح عن شرط مقدر تقديره:إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك ، كما يتبع السائر في طريق لا يعلمه الرائد الخريت{[1474]} العارف .
والصراط:الطريق كما ذكرنا ، والسوي:المستوى الذي لا عوج فيه ولا أمت ، وقد قال الزمخشري في هذا النداء من ذلك الابن البار بأبيه:ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا متلطفا ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف ، وهبني وإياك في سير وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أنجيك من أن تضل وتتيه ) .