وقوله تعالى عن إبراهيم{يا أَبَتِ} التاء فيه عوض عن ياء المتكلم ،فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وفي النداء أبت أمت عرض *** واكسر أو افتح ومن اليا التا عوض
وقوله تعالى في هذه الآية{لِمَ تَعْبُدُ} أصله «ما » الاستفهامية ،فدخل عليها حرف الجر الذي هو «اللام » فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة:
وما في الاستفهام إن جرت حذف*** ألفها وأولها الها إن تقف
ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس .ولذا يوقف على «لم » بسكون الميم لإبهاء السكت كما في البيت .ومعنى عبادته للشيطان في قوله{لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي .فذلك الشرك شرك طاعة ،كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين 60 ٌوَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 61} كما تقدم هذا المبحث مستوفي في سورة «الإسراء » وغيرها .
والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان .لقوله هنا{إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً 45} والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة ،وقد قدمنا كثيراً من ذلك في سورة الكهف وغيرها ،كقوله تعالى:{فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} ،وقوله:{إِنَّمَا ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ،أي يخوفكم أولياءه .وقوله:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان .كما قال تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 63} ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير ،كما قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ 51} ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم ،وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم .كما قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} الآية ،وقال تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي في اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ،وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة «الأنعام » لا ينافي ما ذكرنا .لأن أصل المحاجة في شيء واحد وهو توحيد الله جل وعلا ،وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة «الأنعام » وفي غيرها .والعلم عند الله تعالى .