وكرر تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر .كقوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ 74} ،وقوله تعالى:{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون 70 َقَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين 71 َقَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون 73 َقَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون 74 َقَالَ أَفَرَأيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون 75 َأَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقدَمُون 76 َفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ 77} ،وقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ 51 إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون 52 َقَالُواْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ 53 قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلَالٍ مُّبِين ٍ53 قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ 55 قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلكمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ 56} ،وقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُون26 َإِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ 27} ،وقوله تعالى:{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ 83 إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 84 إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ 85 أَإفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُون86 فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 87} وقوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية:{إِذْ قَالَ لأبِيهِ} الظرف الذي هو «إذ » يدل اشتمال من «إبراهيم » في قوله:{وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} كما تقدم نظيره في قوله:{وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} .وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب .وجملة{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً 41} معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور .والصديق صيغة مبالغة من الصدق .لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته ،كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37} ،وقوله:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} .
ومن صدقه في معاملته ربه: رضاه بأن يذبح ولده ،وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه .مع أن الولد فلذة من الكبد .
لكنما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشي على الأرض
قال تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين 103 ِوَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيم 104 ُقَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} الآية .
ومن صدقه في معاملته مع ربه: صبره على الإلقاء في النار .كما قال تعالى:{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ 68} ،وقال:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} الآية .
وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله: هل لك حاجة ؟فقال: أما إليك فلا !وأما إلى الله فنعم .فقال له: لم لا تسأله ؟فقال: علمه بحالي كاف عن سؤالي ؟؟
ومن صدقه في معاملته ربه: صبره على مفارقة الأهل والوطن فراراً لدينه .كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وقد هاجر من سواد العرق إلى دمشق: وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر ،بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذاً وترك الكبير من الأصنام ،ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم: إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام ،وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق .كما قال تعالى عنه:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ 57 فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون58 َقَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ 59 قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم 60 ُقَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون 61 َقَالُواْ أأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيم 62 ُقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُون 63 فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ 64 ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُون 65 َقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُم 66 ْأُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ 67} ،وقال تعالى:{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ 91 مَا لَكُمْ لاَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ 93 فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّون 94 َقَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ 95 وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ 96} .فقوله{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ 93} أي مال إلى الأصنام يضربها ضرباً بيمنه حتى جعلها جذاذاً ،أي قطاعاً متكسرة من قولهم: جذه إذا قطعه وكسره .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} أي كثير الصدق يعرف منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى ،وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي ،وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة «الأنبياء »: