قوله: إذ قال لأبيه الخ بدل اشتمال من ( إبراهيم ) .و ( إذ ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن ( إذ ) ظرف متصرف على التحقيق .والمعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر .
وأبو إبراهيم هو ( آزار ) تقدم ذكره في سورة الأنعام .
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه .
قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 هـ فقال:
« علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم ،فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة ،وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء ،منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله ،فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه ،فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما .وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة ،ثم أتبعها بقوله: ولا يغني عنك شيئاً ،ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله:{ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً}[ مريم: 43] ،فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ،ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله:{ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا}[ مريم: 45] ،أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني ،فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها .وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه:
زعم المنجّم والطّبيب كلاهما *** لا تحشر الأجسام قلت: إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر*** أو صح قولي فالخسار عليكما
قال: وفي النداء بقوله:{ يا أبت} أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب .ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله:{ يا بني}[ لقمان: 13 16] ثلاث مرات ،قال: بخلاف قول نوح لابنه:{ يا بني اركب معنا}[ هود: 42] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز » .انتهى كلامه بما يقارب لفظه .
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته ،كما أشار إليه صاحب « الكشاف » ،ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله:{ لم تعبد ،فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه ،فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام .
وأبت: أصله أبي ،حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضاً على غير قياس ،وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ،ولعله صيغة باقية من العربية القديمة .ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء ،وخالفه الفراء فقال: ببقائها في الوقف .والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور .وقرأ ابن عامر ،وأبو جعفر: ( يأبتَ ) بفتح التاء دون ألف بعدها ،بنَاء على أنهم يقولون ( يا أبتَا ) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفاً وبقاء الفتحة .