[ و أنفقوا في سبيل الله] بين سبحانه مشروعية القتال عند الاعتداء ، ورد الاعتداء بمثله قدرا وزمانا ومكانا مع ملاحظة الدين وعدم الاسترسال في أمر يخالفه إن وقع من المشركين ، أو المحاربين بشكل عام مثله ، ولقد أخذ بعد ذلك يبين ما هو عدة الحرب ، وقوة الجماعة الإسلامية ، ورباط بنيانهاوهو المال ، فأمر الأغنياء بإنفاق المال في سبيل الله أي في كل ما هو خير وبر ، فإن كل خير وطاعة يعد سبيل الله سبحانه ، وإنفاق المال على ذلك هو قوة الأمة في سلمها ، وقوة السلم هي عدة الحرب ، وإن من الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في الحرب ، وإعداد العتاد الحربي ، ولكن ذلك وإن كان قوة الحرب المباشرة ، لا ينفي أن قوة الحروب تعتمد على وحدة القوة في الأمة ، وقوة الصلة بين ضعفائها وأقويائها ، وأغنيائها وفقرائها ، وذلك يكون بسد حاجة المعوزين ، وإعطاء المحرومين ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"{[213]} .
[ و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة]التهلكة بضم اللام:مصدر بمعنى الهلاك ، كما قال أبو عبيدة والزجاج ، وادعى بعض علماء اللغة انه لم يوجد مصدر على وزن "تفعلة"إلا هذا ، ولكن روي عن سيبويه كلمتان أخريان هما تنصرة وتسترة ، بمعنى نصر وستر . وقد جوز الزمخشري أن يكون أصلها "تهلكة"قلبت الكسرة ضمة ، ككسرة الجوار قد تقلب ضمة فيقال "الجُوار "‘ ومهما يكن فإن التهلكة إذا كانت بمعنى الهلاك في المال ، فلابد أن يكون ثمة فرق دقيق اقتضى العدول من لفظ الهلاك إلى لفظ التهلكة كما هو الشأن في التخير من الألفاظ المترادفة في الكلام البليغ ، ولو أن لنا أن نلتمس فرقا فهو أن نقول:إن التهلكة هلاك خاص ، وهو الذي يباشر سببه من ينزل به الهلاك ، وربما لا ينزل دفعة واحدة ، بل يسري شيئا فشيئا ، ولكن نتيجته تكون مؤكدة ، أما لفظ الهلاك فهو يشمل ما ينزل دفعة واحدة وما لا يكون للإنسان فيه إرادة غيرهما .
و الباء في قوله سبحانه [ ولا تلقوا بأيديكم] قيل زائدة في الإعراب لتقوية معنى الإلقاء المنهي عنه ، فيقوى النهي ، وقيل المعنى:لا تلقوا أنفسكم مجذوبة بأيديكم وإرادتكم إلى التهلكة ، فلا تكون زائدة . وعلى أن الباء زائدة في الإعراب يكون المراد بالأيدي الأنفس ، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل ، والمعنى:لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . والمؤدى في التخريجين واحد .
و النهي عن الإلقاء في التهلكة بعد الأمر بالإنفاق وبعض شؤون القتال يعين المعنى بأنه فيما يتعلق بشؤون الدفاع عن الدولة والذود عن حياضها ، وحفظ كيانها ، أو على الأقل يتجه نحو هذه الغاية أو ذلك المرمى أولا وبالذات ، ولذلك فسر الأكثرون الإلقاء إلى التهلكة بأنه الكف عن القتال والتقاعد عنه فتكون الأمة نهبا للمغيرين بسبب ذلك ، والكف عن الاستعداد للحرب بإعداد العدة وأخذ الأهبة كما قال تعالى:[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . .60] ( الأنفال ) وبقبض الأغنياء أيديهم عن إعطاء حق الفقراء ، فيكون بأس الأمة بينها شديدا ، يسهل إغارة المغيرين عليها ، ولذلك روى ابن عباس في تفسير هذه الآية وهو ترجمان القرآن ما نصه:لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا .
هذا هو معنى الآية على ما عليه الأكثرون وهو الذي يتفق مع السياق ، ومع المروي في جملته ، فقد روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في النفقة ، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم قال:"غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمان بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو فقال الناس:مه مه{[214]} ! لا إلاه إلا الله:يلقي بيده إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري:"سبحان الله أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه ، وأظهر دينه قلنا هلم نقيم في أموالنا ، فأنزل الله عز وجل:[ و أنفقوا في سبيل الله] والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد .
و قد تضافرت الروايات بمثل ذلك مما يجعلنا نفهم أن الآية الكريمة تتجه إلى حماية الدولة والجماعة من أن تلقي بيدها إلى التهلكة ، بترك الضعفاء فيها ، وترك الجهاد دفاعا عنها ، وعدم الاستعداد لأعدائها .
و لكن عموم الآية قد يشمل حال الآحاد إذا أقدموا على ما يضرهم من غير أي فائدة تعود على الجماعة من إقدامهم ولو كانت الفائدة معنوية أدبية ، فإن ذلك يسير عليه النهي بمقتضى العموم ، وليس منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقول كلمة الحق للظالمين ، فإن ذلك فيه فائدة معنوية للأمة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله "{[215]} .
و قد اختلف العلماء فيمن أقدم على مهاجمة عدو كثير العدد وحده ، فسوغه ناس{[216]} لما فيه من فائدة للجماعة ولو معنوية ، ومنعه آخر لأنه لم ير فيه أية فائدة للأمة ، وفيه المضرة على من أقدم ، فتنطبق عليه الآية .
و الخلاصة أن الآية ينطبق النهي فيها على الأمة إن تركت أمر حمايتها من الآفات الاجتماعية في الداخل ، وغارات الأعداء في الخارج حتى هلكت ، وينطبق النهي على الآحاد إن أقدموا على ما يهلكهم من غير أي نفع مادي أو أدبي لأمتهم .
[ و أحسنوا إن الله يحب المحسنين] الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين ، أحدهما ، الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها ، ومن ذلك قوله تعالى:[ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا 30] ( الكهف ) ، وقول تعالى:[ الذي أحسن كل شئ خلقه7] ( السجدة ) . والثاني:التفضل على غيره بالعطاء والزيادة فيه ، وعندي أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة ، والإخلاص الكامل فيها .
و على ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان ، وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة ، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشخصية وأحوالهم الاجتماعية ، وشؤون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها ، ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء ، وفي السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء ، ومودة بينهم وإخاء ، ليكونوا كما وصف الله الأسلاف [ أشداء على الكفار رحماء بينهم . . .29] ( الفتح ) [ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . . .54] ( المائدة ) فإن لم يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته ، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته ، لأن الله مع من يحسن ، ولا يحب سواه ، إذ قال:[ إن الله يحب المحسنين] .