قال البخاري:حدثنا إسحاق ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة عن سليمان قال:سمعت أبا وائل ، عن حذيفة:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال:نزلت في النفقة .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن أبي معاوية عن الأعمش ، به مثله . قال:وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وقال الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران قال:حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاري ، فقال ناس:ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب:نحن أعلم بهذه الآية ، إنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر ، اجتمعنا معشر الأنصار نجيا ، فقلنا:قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره ، حتى فشا الإسلام وكثر أهله ، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما . فنزل فينا:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فكانت التهلكة [ في] الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .
رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وعبد بن حميد في تفسيره ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير وابن مردويه ، والحافظ أبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب ، به .
وقال الترمذي:حسن صحيح غريب . وقال الحاكم:على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران:كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ;
وعلى أهل الشام رجل ، يريد فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم:ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا:سبحان الله ، ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب:يا أيها الناس ، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل ، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار ، وإنا لما أعز الله دينه ، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا:لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها . فأنزل الله هذه الآية .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السبيعي قال:قال رجل للبراء بن عازب:إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال:لا . قال الله لرسوله:( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) [ النساء:84] ، إنما هذا في النفقة . رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به . وقال:صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ورواه الثوري ، وقيس بن الربيع ، عن أبي إسحاق ، عن البراء فذكره . وقال بعد قوله:( لا تكلف إلا نفسك ) ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني الليث ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام:أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره:أنهم حاصروا دمشق ، فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص ، فأرسل إليه عمرو فرده ، وقال عمرو:قال الله:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ليس ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله . ولا تلق بيدك إلى التهلكة .
وقال حماد بن سلمة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن الضحاك بن أبي جبيرة قال:كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ، فأصابتهم سنة ، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )
وقال الحسن البصري:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال:هو البخل .
وقال سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير في قوله:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) أن يذنب الرجل الذنب ، فيقول:لا يغفر لي ، فأنزل الله:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) رواه ابن مردويه .
وقال ابن أبي حاتم:وروي عن عبيدة السلماني ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبي قلابة نحو ذلك . يعني:نحو قول النعمان بن بشير:إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له ، فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي:يستكثر من الذنوب فيهلك . ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:التهلكة:عذاب الله .
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا:حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن القرظي:أنه كان يقول في هذه الآية:( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال:كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل . فكان أفضل زادا من الآخر ، أنفق البائس من زاده ، حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن يواسي صاحبه ، فأنزل الله:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) .
وقال ابن وهب أيضا:أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله:( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بغير نفقة ، فإما يقطع بهم ، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي . وقال لمن بيده فضل:( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
ومضمون الآية:الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات ، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده . ثم عطف بالأمر بالإحسان ، وهو أعلى مقامات الطاعة ، فقال:( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )