ولما كان الجهاد بالنفس وهو القتال ، يتوقف على الجهاد بالمال ، أمرهم به فقال{ وأنفقوا في سبيل الله} وهو عطف على قاتلوا رابط لأحكام القتال والحج بحكم الأموال السابق ، فهناك ذكر ما يحرم من أكل المال مجملا ، وههنا ذكر ما يجب من إنفاقه منه كذلك ، وسبيل الله هو طريق الخير والبر والدفاع عن الحق .ثم ذكر علة هذا الأمر وحكمته على ما هي سنته في ضمن حكم آخر فقال:{ ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة} بالإمساك عن الإنفاق في الاستعداد للقتال ، فإن ذلك يضعفكم ويمكن الأعداد من نواصيكم فتهلكون .ويدخل في النهي التطوح في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو كما يدخل فيه كل مخاطرة غير شرعية ، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييد حزبه .وقال بعضهم يدخل فيه الإسراف الذي يوقع صاحبه في الفقر الموقع فهو من قبيل{ كلوا واشربوا ولا تسرفوا} ( الأعراف:31 ) .
وفسر الجلال{ سبيل الله}"بطاعته:الجهاد وغيره "{ والتهلكة}"بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد ".قال:لأنه يقوي العدو عليكم .قال الأستاذ الإمام:أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية ، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة أي لا تقاتلوا إلا حيث يغلب على ظنكم النصر وعدم الهزيمة .وهذا لا معنى له إذ لا يلتئم مع ما سبقه ، وقال بعضهم إنه نهي عن الإسراف ولا يلتئم مع الأسلوب قبله وبعده ، وإنما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله الجلال وآخرون ، فالمعنى:إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتكم أنفسكم .
وفي أسباب النزول عن أبي أيوب الأنصاري قال:نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا{ وأنفقوا} الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو{[116]}:رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وغيرهم .وروي أنه قاله .لما خاطر رجل من المسلمين في القسطنطينية فدخل في صف الروم فقال الناس ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية وذكره .
أقول وبيانه أن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين وهم كثيرون فلو انصرفوا عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لاغتالوهم .وإصلاح الأموال واستثمارها في هذا الزمان هو أساس القوة ، فقوى الدول على قدر ثروتها ، فالأمة التي تقصر في توفير الثورة هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة ، والتي تقصر في الإنفاق في سبيل الله للاستعداد لقتال من يعتدي عليها تكون أدنى إلى التهلكة ولا ثروة مع الظلم ، ولا عدل مع الحكم المطلق الاستبدادي .
ثم قال تعالى{ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} الأمر بالإحسان على عمومه أي أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا إتقان شيء منها ، ويدخل فيه التطوع بالإنفاق .
/خ195