لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد ، شرع في بيان المناسك ، فأمر بإتمام الحج والعمرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ; ولهذا قال بعده:( فإن أحصرتم ) أي:صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما . ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء . وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا "الأحكام "مستقصى ولله الحمد والمنة .
وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي:أنه قال في هذه الآية:( وأتموا الحج والعمرة لله ) قال:أن تحرم من دويرة أهلك .
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس . وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية:إتمامهما أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت:لو حججت أو اعتمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ، ولا تخرج لغيره .
وقال مكحول:إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر عن الزهري قال:بلغنا أن عمر قال في قول الله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) [ قال]:من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ; إن الله تعالى يقول:(الحج أشهر معلومات ) .
وقال هشيم عن ابن عون قال:سمعت القاسم بن محمد يقول:إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له:العمرة في المحرم ؟ قال:كانوا يرونها تامة . وكذا روي عن قتادة بن دعامة ، رحمهما الله .
وهذا القول فيه نظر ; لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة:عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر ، ولا اعتمر قط في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانئ "عمرة في رمضان تعدل حجة معي ". وما ذاك إلا لأنها [ كانت] قد عزمت على الحج معه ، عليه السلام ، فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم .
وقال السدي في قوله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) أي:أقيموا الحج والعمرة . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) يقول:من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حل .
وقال قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس أنه قال:الحج عرفة ، والعمرة الطواف . وكذا روى الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة في قوله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) قال:هي [ في] قراءة عبد الله:"وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت "لا تجاوز بالعمرة البيت . قال إبراهيم:فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال:كذلك قال ابن عباس .
وقال سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال:"وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت "وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ:"وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ".
وقرأ الشعبي:"وأتموا الحج والعمرة لله "برفع العمرة ، وقال:ليست بواجبة . وروي عنه خلاف ذلك .
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه:"من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة ".
وقال في الصحيح أيضا:"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال:حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية أنه قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال:كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ قال:فأنزل الله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين السائل عن العمرة ؟ "فقال:ها أنا ذا . فقال له:"ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل ، واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك "هذا حديث غريب وسياق عجيب ، والذي ورد في الصحيحين ، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال:كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه الوحي ، ثم رفع رأسه فقال:"أين السائل ؟ "فقال:ها أنا ذا ، فقال:"أما الجبة فانزعها ، وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك ". ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول الآية ، وهو عن يعلى بن أمية ، لا [ عن] صفوان بن أمية ، والله أعلم .
وقوله:( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست ، أي عام الحديبية ، حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رخصة:أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن يتحللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا . فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ، ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم:"رحم الله المحلقين ". قالوا:والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة:"والمقصرين ". وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ، كل سبعة في بدنة ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ، وقيل:بل كانوا على طرف الحرم ، فالله أعلم .
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ، فلا يتحلل إلا من حصره عدو ، لا مرض ولا غيره ؟ على قولين:
فقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح [ ومجاهد] عن ابن عباس ، أنه قال:لا حصر إلا حصر العدو ، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى:( فإذا أمنتم ) فليس الأمن حصرا .
قال:وروي عن ابن عمر ، وطاوس ، والزهري ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .
والقول الثاني:أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك . قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حجاج بن الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه حجة أخرى ".
قال:فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا:صدق .
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ، به . وفي رواية لأبي داود وابن ماجه:من عرج أو كسر أو مرض فذكر معناه . ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن علية ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ، به . ثم قال:وروي عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا:الإحصار من عدو ، أو مرض ، أو كسر .
وقال الثوري:الإحصار من كل شيء آذاه . وثبت في الصحيحين عن عائشة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت:يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال:"حجي واشترطي:أن محلي حيث حبستني ". ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث . وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث . قال البيهقي وغيره من الحفاظ:فقد صح ، ولله الحمد .
وقوله:( فما استيسر من الهدي ) قال الإمام مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول:( فما استيسر من الهدي ) شاة . وقال ابن عباس:الهدي من الأزواج الثمانية:من الإبل والبقر والمعز والضأن .
وقال الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله:( فما استيسر من الهدي ) قال:شاة . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمن بن القاسم ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم مثل ذلك ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة وابن عمر:أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر .
قال:وروي عن سالم ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير نحو ذلك .
قلت:والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية الحديبية ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر قال:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله:( فما استيسر من الهدي ) قال:بقدر يسارته .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه:( فما استيسر من الهدي ) قال:إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء .
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار:أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ، أي:مهما تيسر مما يسمى هديا ، والهدي من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت:أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما .
وقوله:( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) معطوف على قوله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) وليس معطوفا على قوله:( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) كما زعمه ابن جرير ، رحمه الله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق ( حتى يبلغ الهدي محله )
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنا ، أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا ، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت:يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا من العمرة ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال:"إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ".
وقوله:( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) قال البخاري:حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني:سمعت عبد الله بن معقل ، قال:فعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن ( ففدية من صيام ) فقال:حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي . فقال:"ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا ! أما تجد شاة ؟ "قلت:لا . قال:"صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك ". فنزلت في خاصة ، وهي لكم عامة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال:أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقمل يتناثر على وجهي أو قال:حاجبي فقال:"يؤذيك هوام رأسك ؟ ". قلت:نعم . قال:"فاحلقه ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة ". قال أيوب:لا أدري بأيتهن بدأ .
وقال أحمد أيضا:حدثنا هشيم ، أخبرنا أبو بشر عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أيؤذيك هوام رأسك ؟ "فأمره أن يحلق . قال:ونزلت هذه الآية:( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .
وكذا رواه عفان ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، وهو جعفر بن إياس ، به . وعن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، به . وعن شعبة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة ، نحوه .
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة فذكر نحوه .
وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري:أنه سمع كعب بن عجرة يقول:فذبحت شاة . رواه ابن مردويه . وروي أيضا من حديث عمر بن قيس ، سندل وهو ضعيف عن عطاء ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام فرق بين ستة ".
وكذا روي عن علي ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة وإبراهيم [ النخعي] ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب:أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة:أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقال:"صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مدين مدين لكل إنسان ، أو انسك شاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك ".
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله:( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) قال:إذا كان "أو "فأيه أخذت أجزأ عنك .
قال ابن أبي حاتم:وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وحميد الأعرج ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، نحو ذلك .
قلت:وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام ، إن شاء صام ، وإن شاء تصدق بفرق ، وهو ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصف صاع ، وهو مدان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء ، أي ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل:( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك ، أرشده إلى الأفضل ، فالأفضل فقال:انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام . فكل حسن في مقامه . ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال:ذكر الأعمش قال:سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية:( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) فأجابه يقول:يحكم عليه طعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، وإن لم يكن قومت الشاة دراهم ، وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام بكل نصف صاع يوما ، قال إبراهيم:كذلك سمعت علقمة يذكر . قال:لما قال لي سعيد بن جبير:من هذا ؟ ما أظرفه ! قال:قلت:هذا إبراهيم . فقال:ما أظرفه ! كان يجالسنا . قال:فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال:فلما قلت:"يجالسنا "انتفض منها .
وقال ابن جرير أيضا:حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله:( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) قال:إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكوكين:مكوكا من تمر ، ومكوكا من بر ، والنسك شاة .
وقال قتادة ، عن الحسن وعكرمة في قوله:( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) قال:إطعام عشرة مساكين .
وهذان القولان من سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والحسن ، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر ; لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة بصيام ثلاثة أيام ، [ لا عشرة و] لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن . وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد ، كما هو نص القرآن . وعليه أجمع الفقهاء هناك ، بخلاف هذا ، والله أعلم .
وقال هشيم:أخبرنا ليث ، عن طاوس:أنه كان يقول:ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، والحسن .
وقال هشيم:أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء:أنه كان يقول:ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقال هشيم:أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال:حج عثمان بن عفان ، ومعه علي والحسين بن علي ، فارتحل عثمان . قال أبو أسماء:وكنت مع ابن جعفر ، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال:فقلت:أيها النؤوم . فاستيقظ ، فإذا الحسين بن علي . قال:فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا . قال:فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس . قال:فمرضناه نحوا من عشرين ليلة . قال:قال علي للحسين:ما الذي تجد ؟ قال:فأومأ بيده إلى رأسه . قال:فأمر به علي فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها . فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة . وإن كانت عن التحلل فواضح .
وقوله:( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) أي:إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء . والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح ، فإن من الرواة من يقول:تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وآخر يقول:قرن . ولا خلاف أنه ساق الهدي .
وقال تعالى:( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) أي:فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر . وقال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه ، وكن متمتعات . رواه أبو بكر بن مردويه .
وفي هذا دليل على شرعية التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال:نزلت آية المتعة في كتاب الله ، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم لم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها ، حتى مات . قال رجل برأيه ما شاء . قال البخاري:يقال:إنه عمر . وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر ، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع ، ويقول:إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام . يعني قوله:( وأتموا الحج والعمرة لله ) وفي نفس الأمر لم يكن عمر ، رضي الله عنه ، ينهى عنها محرما لها ، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ، رضي الله عنه .
وقوله:( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) يقول تعالى:فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، أي:في أيام المناسك . قال العلماء:والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر ، قاله عطاء . أو من حين يحرم ، قاله ابن عباس وغيره ، لقوله:( في الحج ) ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد . وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وعطاء ، وطاوس ، والحكم ، والحسن ، وحماد ، وإبراهيم ، وأبو جعفر الباقر ، والربيع ، ومقاتل بن حيان . وقال العوفي ، عن ابن عباس:إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله . وكذا روى أبو إسحاق عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال:يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وكذا روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أيضا .
فلو لم يصمها أو بعضها قبل [ يوم] العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضا ، القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري:لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي . وكذا رواه مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة . وعن سالم ، عن ابن عمر [ إنما قالوا ذلك لعموم قوله:( فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة )] . وقد روي من غير وجه عنهما . ورواه سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه كان يقول:من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق . وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي وعكرمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ; وإنما قالوا ذلك لعموم قوله:( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) والجديد من القولين:أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله ".
وقوله:( وسبعة إذا رجعتم ) فيه قولان:
أحدهما:إذا رجعتم في الطريق . ولهذا قال مجاهد:هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق . وكذا قال عطاء بن أبي رباح .
والقول الثاني:إذا رجعتم إلى أوطانكم ; قال عبد الرزاق:أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سالم ، سمعت ابن عمر قال:( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) قال:إذا رجع إلى أهله ، وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والربيع بن أنس . وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع .
وقد قال البخاري:حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال:تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج . فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس:"من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ". وذكر تمام الحديث .
قال الزهري:وأخبرني عروة ، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ، به .
وقوله:( تلك عشرة كاملة ) قيل:تأكيد ، كما تقول العرب:رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وكتبت بيدي . وقال الله تعالى:( ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام:38] وقال:( ولا تخطه بيمينك ) [ العنكبوت:48] ، وقال:( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) [ الأعراف:142] .
وقيل:معنى ( كاملة ) الأمر بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابن جرير . وقيل:معنى ( كاملة ) أي:مجزئة عن الهدي . قال هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن البصري ، في قوله:( تلك عشرة كاملة ) قال:من الهدي .
وقوله:( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) قال ابن جرير:اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله:( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به ، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم:عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان هو الثوري قال:قال ابن عباس ومجاهد:هم أهل الحرم . وكذا روى ابن المبارك ، عن الثوري ، وزاد:الجماعة عليه .
وقال قتادة:ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول:يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال:يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .
وقال عبد الرزاق:حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال:المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم . وذلك قول الله عز وجل:( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) قال:وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس .
وقال آخرون:هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق:أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال:من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة ، لا يتمتع .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول ، في قوله:( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) قال:من كان دون الميقات .
وقال ابن جريج عن عطاء:( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) قال:عرفة ، ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول:من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع . وفي رواية عنه:اليوم واليومين . واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تقصر منها الصلاة ; لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا ، والله أعلم .
وقوله:( واتقوا الله ) أي:فيما أمركم وما نهاكم ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) أي:لمن خالف أمره ، وارتكب ما عنه زجره .