[ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور] نادى الله سبحانه أهل الإيمان بأن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه ، وأن يدخلوا في السلام العام ، كما يقيم فيما بينهم السلام والأمن ، وحذرهم من الشيطان وغروره ، وحذرهم من أن يزلوا فيحرموا من نصر الله ، وينزل بهم عقابه ، وبعد ذلك أشار سبحانه إلى أهل الضلال ، وكيف استمرءوا الغواية ، وسدوا في نفوسهم طريق الهداية ، وقد أقام سبحانه عليهم الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة ، وفد استنكر حالهم منذرا ، فقال:[ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام] وينظرون:معناها ينتظرون ، يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد ، و"ظلل"جمع ظلة . كظلم جمع ظلمة ، و"الغمام "اسم جنس جمعي لغمامة ، وهي السحاب الرقيق ، وسمي بذلك لأنه يغم أي يستر ،و الاستفهامإنكاري ، فمعنى [ هل ينظرون] لا ينتطرون . وقد وجه بعض المفسرين الآية على أن الكلام على حذف مضاف ، فمعنى إتيان الله إتيان عقابه ، وعلى ذلك يكون المعنى:إن هؤلاء المشركين الذين كفروا بالله بعد أن جاءتهم البينات هم في غيهم يعمهون ، وكأنهم لا ينتظرون بعد هذه الحجج الدامغة القاطعة إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من السحاب يحسبونها عارضا ممطرهم ، وهي عذاب يسحقهم ، فتأتيهم النقمة من حيث ينتظرون النعمة ، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون فعلى هذا التخريج تكون الآية للوعيد ، ويكون معنى إتيان الله وملائكته إنزال العذاب الدنيوي ، ومعنى قوله تعالى:[ و قضي الأمر] على هذا التخريج أنه إذا نزل عذاب الله في الدنيا فقد قضى أمره فيهم ، إذ لم يكن ثمة رجاء في إيمانهم ، وكذلك كان يفعل الله سبحانه في الأقوام الذين طغوا وبغوا ، وحالوا بين الناس والهداية ، كما فعل بعاد قوم هود ، وبثمود قوم صالح ، وبفرعون وجيشه ، ومن قبل ذلك بقوم نوح ، وغيرهم ، أما الذين علم الله أن سيكون فيهم هداية ، فإنه يمهلهم ولا يهملهم .
و هناك اتجاه آخر ، وهو عدم تقدير كلمة عذاب ، وأن مجيء الله هو تجليه يوم القيامة ، وكشف الحجاب للناس يوم الجزاء ، فيتجلى عليهم ربهم وملائكته ، والمعنى على هذا الاتجاه أن أولئك الجاحدين سادرون في ضلالهم ولهوهم حتى يأتيهم أجلهم ، وكأنهم لا ينتظرون وهم مستمرون في ضلالهم إلى اليوم الآخر حيث يحاسبهم الديان ، وتجرهم إلى النار ملائكة الجبار ، وينال المؤمنون مثوبة الرحمان ، ويكون معنى [ و قضي الأمر] أنهم عاينوا الحقائق التي أنكروها حيث قضي الأمر نهائيا ولم تعد لديهم فرصة للتوبة والرجوع إلى ربهم ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، ينتظرون فصل القضاء ، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي "{[257]} .
و قد بدا معنى لي غير المعنيين السابقين في إتيان الله سبحانه وملائكته ، أن أولئك المشركين قد كفروا مع أن الحجة قاطعة ، والبيانات دامغة ، والحق واضح أبلج والرسول بين ظهرانيهم قد عرف طول حياته بالصدق والأمانة ، وإذا كانوا قد كفروا مع تلك البينات فهل ينتظرون أن يأتيهم الله وهو وملائكته في ظلل من الغمام ، لكي يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن يشاهدوا الله وملائكته ، ولقد طلبوا أن ينزل ملك من السماء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم:[ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( 8 ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( 9 )] ( الأنعام ) فالاستفهام حينئذ للتوبيخ واللوم مع النفي ، أي أن حالهم حال من لا يريدون أن يؤمنوا إلا بعد أن يعاينوا ويروا الله وملائكته جهرة ، كما قال إخوان لهم سبقوهم لموسى:[ أرنا الله جهرة . . .153]( النساء ) ، ومعنى [ و قضي الأمر] أي انتهى الأمر عند هذه المعجزة التي حاء بها محمد ، [ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . . .29]( الكهف ) .[ و إلى الله ترجع الأمور] إليه سبحانه وحده لا إلى أحد سواه ، ولا إلى أحد معه ، تصير الأمور خيرها وشرها ، وسيجزي كلا بما يستحق ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .