المنحرفون ..ماذا ينتظرون ليستقيموا ؟
] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملائِكَةُ[.ماذا ينتظر هؤلاء المنحرفون الذين زلّت بهم القدم ليستقيموا ؟!فقد جاءتهم البيّنات التي تشير إلى خطّ الاستقامة مما يحقّق لهم القناعة لو أرادوها ،فماذا يريدون ؟هل ينتظرون العذاب ،الذي جاء ذكره هنا على سبيل الكناية ،لأنَّ العذاب كان ينزل على الأمم السابقة من خلال النّار التي تنزل عليهم من السَّماء ،أو من خلال العواصف والصواعق التي تتمثّل فيها كلّ ألوان العذاب ؟؟؟
أمّا التعبير بإتيان اللّه ،فقد يكون المراد منه إتيان أمره وإرادته ،أو إتيانه بلحاظ وجوده الحاضر في الكون ،باعتبار أنه المظهر لوجوده ،لأنَّ كلّ الوجود منبثق منه ومنطلق عنه .أمّا الملائكة ،فهم الذين يحملون العذاب عندما يصدرون به عن أمر اللّه .هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم العذاب ؟!فإذا كانت هذه هي رغبتهم وتفكيرهم ،فهل يعرفون النتيجة ؟هل يعتقدون أنَّ إتيان اللّه والملائكة في ظلل من الغمامكما يتصوّرونيترك مجالاً للانتظار وللمراجعة ؟هل يعرفون أنَّ معنى حدوث ذلك هو وصول الأمر إلى درجة الحسم النهائي الذي لا رجعة فيه ؟.
] وَقُضِيَ الأَمْرُ[ أي فُرغ منه ،وهو المحاسبة وإنزال أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار ،وقيل: معناه وجب العذاب ،أي: عذاب الاستئصال ،وهذا في الدنيا ،كما في مجمع البيان .
] وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ[ في الثواب أو في العقاب ،كما كانت الأمور كلّها إليه في الابتداء ،لأنه المهيمن على الأمر كلّه في الدنيا والآخرة .
وقد نستوحي من هذه الفقرات المثيرة في الآية ،أنَّ القرآن يريد أن يثير أجواء الخوف في داخلهم من خلال هذا التساؤل:] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ[.
جاء في تفسير الكشاف: «فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام ؟قلت: لأنَّ الغمام مظنة الرحمة ،فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ؛لأنَّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغمّ ،كما أنَّ الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ ،فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ؟!ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث .ومن ثمة اشتدّ على المتفكرين في كتاب اللّه قوله تعالى:] وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللّه مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ[» [ الزمر:47] .
] وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ[ فإنَّ كلّ هذه المفاهيم توحي بالهول ،بما يثيره التأكيد على عزّة اللّه واستبدال إتيان إرادة اللّه بإتيانه بالذات ،مما يعمّق الشعور بعظمة الموقف ودقته .وهذا من الأساليب المتعارفة في القرآن في كلّ ما يستعمله من أساليب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه في موضعه ،كما في قوله:] وَاسْألِ الْقَرْيَةَ[ [ يوسف:82] وقوله:] وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً[ [ الفجر:22] فكأنَّ القرية بكلّ أحجارها وأشخاصها ومعالمها تعيش الحقيقة المتمثّلة فيها ،حتى كأنه في مواقع السؤال تماماً كأي مظهر عاقل من مظاهر الكون .فإنَّ هذا الإيحاء بحضور اللّه بنفسه يوحي بالهول فوق الهول والرهبة فوق الرهبة ،بما لا يمكن أن يستوحيه الإنسان من خلال تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية بالأسلوب العادي البسيط .وإذا حدث مثل هذا الإحساس العميق بالرعب في نفسه ،كان الانضباط العملي منسجماً مع المستقبل الحيّ الذي يريده اللّه للإنسان بعيداً عن كلّ انحراف والتواء وتمرّد .
وقد تشير الآية إلى سنّةٍ من سنن اللّه التاريخية في المجتمعات والأمم التي تعيش التمزّق الداخلي ،والتمرّد العملي ،والانحراف عن خطّ اللّه ،فإنَّ اللّهبمقتضى سنته في عبادهينزل العذاب عليهم ،ما يعني أنَّ هؤلاء القوم الذين يريدون تمزيق الأمّة ،ويرفضون الدخول في السلم ،سوف يصيبهم العذاب كما أصاب الآخرين .
وقد ذكر بعض المفسّرين أنَّ الاستفهام هنا إنكاري ،فإنَّ الآية تخاطب الرسول ( ص ) وتقول معقبة على الآيات السابقة: أليست كلّ هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافيةً لصدّ الإنسان عن الانزلاق وإنقاذه من براثن عدوه المبين «الشيطان » ؟.
هل ينتظرون أن يأتي اللّه إليهم مع الملائكة في وسط غمام ذي ظل ليطرح عليهم دلائل أوضح ،أو ليواجهوا الغيب في رؤية حسّية تمنحهم وضوح الرؤية ،وهذا محال: ولكن المسألة لو كانت كذلكأي في استحالة مجيء اللّهلما كان هناك وجه لذكر الملائكة ،فإنه لا استحالة في إتيانهم ،لأنهم أجسام تروح وتجيء ،كما أنه لا معنى لكلمة:] وَقُضِيَ الأَمْرُ[ إلاَّ أن يكون المراد به كما قال .
وإن افترضنا بالفرض المحال تحقّق هذا الأمر ،فما الحاجة إليه ،بينما قضي كلّ شيء ولم يترك أي شيء ؟!وهذا خلاف الظاهر ،لأنه يقتضي فرضاً جديداً ،بينما ظهور الآية يدل على وحدة الموضوع والسياق ؛واللّه العالم .