[ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة] بعد أن بين سبحانه أن الاقتتال قائم في الدنيا ، وأن الحق لا ينال في راحة واطمئنان ؛ لأن البغي والعدوان في طبيعة كثير من بني الإنسان ، وإذا كان الحق في ذاته أنبل ما يطلبه ابن الإنسان فإن الطريق إليه ليس خاليا من مذأبة من ابن الإنسان ، وإذا كان ابن آدم قد قتل أخاه؛ لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ، ولم يتقبل من الآخر ، فقال من رد عليه قربانه لأخيه:لأقتلنك ، وقتله ؛ فالنزاع مستمر ؛ لذلك [ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39] ( الحج ) فكان لابد من أخذ الأهبة ، وبذل النفس ، ثم بذل النفيس أيضا .
و لذلك أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يستعدوا للقتال بالإنفاق في سبيل الله تعالى:[ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم] أي أنفقوا في سبيل الله . فالإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق في سبيل الحق ، وسبيل كل خير في هذا الوجود ، فكل ما ينفق في سبيل الفضيلة من إعطاء لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وإقامة دعائم الاقتصاد الفاضل ، والعمران الشامل هو مما ينفق في سبيل الله ، وأقواها مما ينفق في سبيل حماية الحوزة ، والدفاع عند الاعتداء .
و إن إنفاق المال في سبيل الله على المعنى الذي وضحناه هو عنصر القوة في الأمة ، وبالقوة تستطيع الأمة أن تدافع عن نفسها ، وترد كيد أعدائها في نحورهم .
و كان الإنفاق على ذلك النحو عنصر القوة في الأمة لثلاثة أسباب:
أولها:أن المال عدة التسليح ، ولا قتال من غير سلاح يفل شوكة العدو ويدفع كيده ، بل يمنعه من أن يكفر في الاعتداء ، فإنه لا شيء أنفى للقتال من السلاح ، فذو الناب لا يعدو على ذي الناب ، وتعدو الذئاب على من لا كلاب له .
و ثانيها:أن الإنفاق في سبيل إقامة العمران رفع لمستوى الأمة الاقتصادي ، والاقتصاد سلاح ماض ، والحرب اليوم تلبس لبوس الاقتصاد في الحصار الاقتصادي والتضييق التجاري .
و ثالثها:أن الإنفاق على ضعفاء الأمة يجعل منهم سواعد قوية تحمي الذمار ، وإن تركهم يجعل منهم شوكة في جنب الدولة يعوقها عن العمل ، وقد يكونون قوة مدمرة مخربة ، وإن الهرة إذا جوعتها انقلبت ذئبا .
و قد قال سبحانه وتعالى في المال المنفق منه [ مما رزقناكم] إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أفاض بنعمته على الغني فهيأ له الأسباب ، ومكنه من الفرص ، ومنع عنه العوائق ، فإن أنفق في سبيل الله فأعطى المجاهدين والضعفاء ، فمن المال الذي مكنه الله منه أنفق ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"ابغوني في ضعفائكم ، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "{[360]} .
و الإنفاق المطلوب في هذه الآية واجب ، بدليل الوعيد الذي تضمنه الطلب ، ولذا قال الكثير من المفسرين إن الإنفاق المطلوب في هذه الآية هو الزكاة ، والزكاة ينفق منها في الجهاد وللفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين ، ففيها كل المعاني التي تتحقق بها قوة الأمة من حماية للحوزة وسد للخلة ، وإقامة للعمران .
و إنا نوافقهم على أن الإنفاق المطلوب في هذه الآية إنفاق واجب ، ولكنه أعم من الزكاة ، فليس الإنفاق الواجب مقصورا على الزكاة . . بل الإنفاق في الحروب عندما تشتد الشديدة ، ولا يكون في بيت المال ما يكفي ، يكون واجبا . والإنفاق على الفقراء إذا لم تكف الزكاة يكون واجبا ، فالقصر على الزكاة ليس بصحيح .
وقد ذكر الله سبحانه وعيدا شديدا لمن لا ينفق في سبيل الله فقال سبحانه:[ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة] والخلة المودة والمحبة ، وأصلها من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين ، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه:"الخلة المودة ، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها ، وإما لأنها تخل بين النفس فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية ، وإما لفرط الحاجة إليها ، يقال منه خاللته مخاللة وخلالا فهو خليل ". والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم ، فالشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه ، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو دونه ، ومنه الشفاعة يوم القيامة .
و قد صرح سبحانه وتعالى بأن الإنفاق يجب أن يتداركه المنفقون قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجدي فيه بيع ولا مودة ولا شفاعة . ولا شك أن هذا اليوم هو يوم القيامة ، ولكن ما المراد من نفي البيع والصداقة والشفاعة فيه ؟ .
هناك منهجان في معنى هذا النفي:
أحدهما:أن معنى هذا النفي أنه يوم لا بيع فيه أي لا تجارة حتى يدفع الحرص عليها إلى عدم الإنفاق ، ولا صداقة حتى يؤثر الإنفاق عليها أو طلب المادة عن طريقها في عدم الإنفاق ، أو شفاعة أي طلب المال بطريق شفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء ، والمعنى على هذا:أنفقوا قبل أن يجيء اليوم الذي لا تجدون فيه جدوى للمال بتجارة ، أو بصداقة تتبادل فيها المنافع المعنوية والمادية ، أو بشفاعة شفعاء يطلب المال عن طريقهم . والمغزى في هذا أنه إذا غرتكم فوائد المال في هذه الأبواب الدنيوية ، فأنفقوا لتتقوا بهذا اليوم الذي لا تروج فيه هذه الأسباب ، بل يحكم فيه الحكم العدل مالك الملك .
و المنهاج الثاني:أن يكون المراد نفي هذه الأمور في الآخرة ، فالمعنى:أنفقوا قبل أن يأتي اليوم الذي لا تستطيعون فيه أن تفتدوا نفوسكم بعدل تقدمونه فيكون كالبيع ، ولا تجدون صديقا يدفع عنكم ، ولا شفيعا يشفع لكم فيحط من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين . والمغزى على هذا يكون الوعيد فيه أشد وأوضح ؛ لأن المعنى نجوا أنفسكم بالإنفاق قبل أن يكون زمان لا منجاة فيه .
[ والكافرون هم الظالمون] ذيلت هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أن المؤمنين عدول إذا قاتلوا الكافرين ؛ لأنهم هم الذين اعتدوا ، وإلى أن الذي يقع بهم من عقاب يوم القيامة يستحقونه ، وإلى أنهم هم الذين حركوا ذلك الشر ، وأنهم هم الذين أشعلوا نيران الحروب بالشر الذي كان في نفوسهم .
ثم إن الكافرين ليس ظلمهم فقط لغيرهم ، بل ظلمهم لأنفسهم ؛ لأنهم طمسوا قلوبهم ، وجعلوا أنفسهم في شدة وبلاء ، ثم هم ظالمون فيما بينهم ، كبراؤهم يظلمون ضعافهم ، وضعفاؤهم يظلمون أنفسهم ، بالاستضعاف والحياة الهون بينهم ، وظلموا أنفسهم بأن حرموها من سعادة الإيمان وبرد اليقين ونور الحق ، ورضوان الله ونعمة الله [ قد خسروا الذين كذبوا بلقاء الله . . .45] ( يونس ) .
لكل هذه المعاني كانوا ظالمين ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ظلمهم بالقصر ، أي قصر الظلم عليهم ؛ لأنه لا ظالم غيرهم ؛ وبالجملة الاسمية والضمير المنفصل .
هدانا الله إلى سبيل الحق والعدل والنور ، إنه سميع مجيب الدعاء .