وقد بين سبحانه الأرض وما يرى فيها بالعين والبصر ، لا بالعلم والإدراك كما قال تعالى:
{ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون} .
الرواسي هي الجبال ، وهي جمع راس ، وفواعل تكون جمعا لما فيه التاء ، وتكون جمعا للخالي من التاء ، إذا كان وصفا لا يعقل ، وهي هنا وصف للجبال .
قوله تعالى:{ وجعلنا في الأرض رواسي} وهنا ذكر الوصف وحذف الموصوف ، أي جبالا رواسي أي ثابتة ، والجعل خلق لأمر موصوف بوصف معين ، والخلق مجرد الإنشاء ، أما الجعل فهو خلق لأمر أراده الله تعالى في التكوين ، وهو أن يكون لأمر نافع للعباد ، كما قال تعالى:{ وجعلنا الليل والنهار آيتين . . . 12} ( الإسراء ) وعلل الله كونه خلق الجبال وجعلها رواسي بقوله تعالى:{ أن تميد بهم} والميد الاضطراب الشديد والحركة التي لا يكون معها قرار وثبات ، ويتحقق أن تكون فراشا ، وأن تكون مهادا ، ومستقرا ، وتقديرا القول كما قال البصريون:كراهة أن تميد فتضطرب ، ولا يكون لها قرار تثبت النفوس فيها وتطمئن وتسكن ، وقال الكوفيون:إن معنى{ أن تميد بهم}:لئلا تميد بهم ، وهو تقدير لفظي اختلف فيه ، ولا يغير من المعنى اختلاف الآراء ، بل المعنى في التقدير أن الجبال رواسي ، فلا تضطرب الأرض وتكون فراشا وقرارا ومهادا .
وقال تعالى:{ وجعلنا فيها فجاجا سبلا} الضمير في "فيها"قيل يعود إلى الجبال ، والمعنى جعلنا في الجبال فجاجا فيما بينها ، وهي الشُّعب التي تكون بين الجبال أو في الجبال نفسها ، فمع أنها راسيات تكون فيها طرق يستطيع السائر أن يسير فيها في علوها ، كما ترى في جبال الأطلس في الجزائر وتونس والمغرب .
ولكنا نرى أن الضمير يعود إلى الأرض ، أي جعلنا في الأرض فجاجا أي طرقا واسعة ، فالفج هو الطريق الواسع ، وهو في أصل وصفه للطريق بين الجبلين كأنه شق بينهما شقا ، وتوسع فيه حتى صار يشمل كل طريق ، جاء في المفردات:الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع ، وجمعه فجاج ، قال تعالى:{ من كل فج عميق 27} ( الحج ) .
وقد اخترنا – كما ذكرنا- معنى الطريق لأمرين أولهما:أنه سبحانه وصف الفجاج بأنها سبل أي سبل معبدة ، وثانيهما:أنه سبحانه وصفها بأن الغاية منها أن تكون طريقا للهداية والتعرف لمسالك الأرض في غير ضلال في متاهاتها ، وهذا أنسب لمعنى الطريق الواسع .
قوله تعالى:{ لعلهم يهتدون} أي لتدركوا الهداية في طرائق الأرض ، وألا تتيهوا في متاهاتها ، وإنه بهذه الفجاج لعلكم ترجون الهداية ، فهم إذا أدركوا أن الله تعالى جعل لهم الفجاج سبلا ليهتدوا إلى مصالحهم في معاشرهم وعامة أمورهم ولكيلا تتيهوا في ضلالها ، عساهم يهتدون لوحدانيته رب العالمين .