ثم يبين سبحانه أن هذه الآفات تكب الناس على وجوههم في جهنم لولا فضل الله . وأشنعها حديث الإفك . فقال تعالى:
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءوفٌ رَحِيمٌ ( 20 )} .
{ لولا} هنا حرف امتناع لوجود ، والجواب الممتنع لوجود فعل محذوف ، لتذهب فيه النفس والفكر كل مذهب ، وذلك ينبئ عن أنه هول أي هول ، وشديد أي شدة يتناسب مع عظم الجرم ، وذلك العذاب ممتنع لوجود فضل الله تعالى المنعم علينا ببيان شريعته وعفوه عنا ، وقد نبهنا إلى مغبة هذا لنرتدع ، ونستغفر ونقلع عن أهواء النفس ، ووسوسة الشيطان ، ورحمته بنا من أن نؤخذ بجرمنا فور ارتكابه ، وإن كنا نستحقه ، وأن الله تعالى من صفته أنه رءوف رحيم ، الرأفة انفعال النفس بالرفق والعطف على من يخشى عليه ، وهذا بالنسبة للإنسان ، أما بالنسبة لله تعالى فهي صفة تليق بذاته الكريمة ، وهي تقابل ما عند العبيد ، ولكنها تتفق مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى ، والرحمة لطف الله تعالى في الأحكام ووضعها في مواضعها سواء أكانت خفيفة أم كانت غليظة في عقاب ، فالعقوبةمهما كانت شديدةمن رحمة الله تعالى بعباده ، وإن رمى الأبرياء من طاعة الشيطان ، ولذا قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} .
ذكر سبحانه العواقب الوخيمة التي تترتب على ترداد الإفك على ألسنة الناس وإنه يترتب عليه فساد أمر المؤمنين وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وفي هذه الآية يشير إلى أنه من وسوسة الشيطان ، ومن اتباع مسالكه ، ونهى المؤمنون عن ذلك صيانة لأنفسهم ، ولعقولهم ، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تقرأ بضم الخاء وفتحها ، وقراءة الجمهور بضمها ، وخطوات الشيطان جمع خطوة ، وهي ما يكون بين الرجلين عند السير ، وذلك يتضمن النهي عن السير في مسالك الشيطان ، وعبّر عن طريق الشيطان بخطواته ، على أنه تعبير مجازي شبه من يخضع لهواه بمن يتبع الشيطان في خطواته ، فيخطو مثله غير متجنب لها ، ولا لطريقه .
ثم بيّن سبحانه سير الشيطان ، وأن من يتبعه يتبع الفحشاء والمنكر ، فقال عز من قائل:{ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} والفحشاء:الأمر الزائد في القبح الذي يتجاوز كل حد ، والمنكر:الأمر الذي تنكره العقول ، والفطرة المستقيمة ، ولا يقبله الناس ، ولا يرضاه ذوو الكرامات ، والذين يتطهرون في أقوالهم وأفعالهم .
وقوله تعالى{ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} ، ليست جواب الشرط ، بل هو يومئ إليه ، لأنه علة ، ويكون مجرى البيان:ومن يتبع خطوات الشيطان فهو منساق إلى الفساد ، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر ، وعبر سبحانه عن وسوسة الشيطان وإغوائه بالأمر لأنه يستولي على من اتبعه ، وكأنه سلطان مسيطر يأمره وينهاه ، ولا سلطان على نفس الضال غيره ، لأنه رضي مسلك الشيطان طريقا ، وهو ينتهي لا محالة إلى الضلال الذي لا هداية معه قط .