بعد ذلك بينسبحانهبراءة عائشة من الإفك ، فقال عز من قائل:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 26 )} .
وهذا برهان منطقي مستمد من واقع الحياة ، وما يختاره الله تعالى للناس ، وهو التجانس بين الأزواج في الأخلاق والأعمال والأقوال .
الخبيثات جمع خبيثة ، وهل المراد وصف النساء أم وصف الأقوال ؟ قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وجمهور مفسري السلف:ويكون المعنى أن خبيث الأقوال ، إنما ينطبق على خبيث الرجال وقد حصرت فيهم ، وكذلك الخبيثون انحصروا في خبيث الأقوال لا يعدونها ،{ والطبيات} ، أي الأقوال الطيبة تنحصر في الطيبين من الرجال ، وهم منحصرون فيها لا يتجاوزونها إلى خبيث الأقوال ، وقد عد هذا احتمالا في الآية الزمخشري ، والاحتمال الثاني الذي ذكره أن المراد بالخبيثات النساء ، وكذلك الطيبات ، وإلى هذا نميل ، فليس موضوع الكلام خبائث الأقوال ، وطيباتها ، إنما موضوعها البريئات من النساء والبرآء من الرجال الذين يرمون بخبث القول ، فهي أولى بأن تفسر بموضوعها .
والخبيث هو من قام به الخبث ، وهو الرجس الحسي ، وقد شبه الرجس المعنوي ، وهو فساد النفوس وارتكابها موبق الأفعال من زنى وشرب خمر وسرقة ، واختلاس واغتصاب بالخبث الحسي ، كما في قوله تعالى:{. . . إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا . . . ( 28 )} [ التوبة] .
وقوله تعالى:{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} هو من قبيل القصر ، لأن فيه تعريفا للطرفين ، ومعنى ذلك أن الخبيثات لا يكن إلا للخبيثين من الرجال ، أي لا يمكن أن يكن أزواجا إلا للخبيث من الرجال ، إذا لا يقدم عليهن إلا مثلهن ، وكذلك كان القصر في الجملة الثانية ، والخبيثون للخبيثات ، أي انحصر زواج الخبيثين في الخبيثات من النساء ، أي لا ترضى بواحد منهم زوجا لها تجتاز معه مرحلة الحياة إلا الخبيثات من النساء ، فلا ترضى شريفة طيبة برجل خبيث النفس والقول والعمل .
وكذلك الطيبات للطيبين هو أيضا فيه قصر بتعريف الطرفين ، أي أن الطيبات من النساء لا يقبلن إلا زواج الطيبين ، لأن الطيبة الكريمة لا ترضى أن تكون فراشا إلا للطيب الكريم ، ولا يرضى ذووها إلا بكريم طيب ذي خلق ودين ، والطيبون ذوو الأخلاق الذين لا يختارون إلا كريمة ذات خلق ودين ، والشطر الأول كقوله تعالى:{ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . . . ( 3 )} [ النور] .
{ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الإشارة هنا إلى الطيبين والطيبات ، لأنهم الأقرب في الذكر ولأنهم الذين يأثم الخبثاء بالقول القاذف فيهم ، والتبرئة لا تكون إلا لمن يرمي بالقول الخبيث .
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، أما المغفرة فهي أن الله تعالى يغفر لهم من اللمم ، وبعض السيئات بسبب القذف الآثم لهم فإنه ينتقص من سيئات المظلوم بمقدار اعتداء الظالمين ، والرزق الكريم هو الحسنات في الدنيا ، وجزاؤها في الآخرة ، وهذا كقوله تعالى:{. . . وأعتدنا لها رزقا كريما ( 31 )} [ الأحزاب] .
والآية الكريمة عامة تعم نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء المؤمنين ، وهي مع عمومها ، تدل على براءة أم المؤمنين عائشة من ناحية التصريح بكل طيبة ترمى ، فقد صرح سبحانه بالبراءة ، في قوله تعالى:{ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} وبرأها سبحانه بتضمين القول الدال على انحصار الخبيث من القول في الخبثاء والخبيثات ، وانحصار الطيب من النساء والرجال في الطيب من الأخلاق والأقوال . . وإذا كان زوج كل طيب طيبة فزوج أطيب الرجال في الإنسانية أطيب النساء ، والله واسع عليم .