أدب البيوت وصيانتها
كان الكلام السابق في رمي الأبرياء وحد القذف ، واللعان ، وحديث الإفك ، وما يستوجبه رمي المحصنين والمحصنات إذا كان صادقا من شهادة أربعة من الشهداء ، وقد يدفع الفضول بعضهم إلى أن يفشي سر البيوت لتأكيد مظنة الزنى ، فجاء النص الكريم باحترام حرمة البيوت ، دفعا لهذه ، ومنعا لغشيان البيوت وانتهاك حرمتها وصيانة الأسر ، فقال عز من قائل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 27 )} .
النداء للذين آمنوا ، وفي ذلك إشارة إلى ما يطلبه سبحانه من خواص أهل الإيمان ، وهو من الأدب الذي يناسب إيمانكم وهو عدم التهجم على الأسر ، وتكشف أستارها ، وتحاشي إزعاجها ، و( تستأنسوا ) أي تطلبوا الأنس بأهلها وتزيلوا الوحشة التي تحدثها المفاجأة ، والسين والتاء للطلب ، وقالوا:إن معنى{ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، حتى تستأذنوا ، وقيل إن ثمة قراء قرءوا حتى تستأذنوا{[1562]} ، ونقول:الاستئناس أدق في التعريف وأدل على الاستعلام ، لأن الاستئذان الإذن المجرد ، وتتحقق الإجابة بالإذن ، أما الاستئناس فطلب الأنس وإزالة الوحشة ، وذلك لا يتحقق بمجرد الإذن بل لابد لتحققه من إيجاد الألفة ، وهو يتضمن في تحقيق طلب الإذن ، والاستجابة بالإذن فعلا .
وإن هذا يتضمن في معناه ومغزاه النهي عن التجسس والتحسس ، وظن السوء ، وأنه يجب أن يظن خيرا .
وإنه من تمام الاستئناس السلام ، ولذا قال تعالى:{ وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل بيتا سلم ثلاث مرات{[1563]} ، ولا يكتفي بسلام واحد إعلاما لمن يدخل عليهم ، واستئناسا لهم ، وإزالة لوحشة المفاجأة ، والبيوت:الظاهر أنها ليس الدور ، إنما هي محل البيات حيث تكون العورات مظنة أن تكون مكشوفة غير مستورة ، فإذا كانت الدار ذات بيوت في كل بيت منها سكن كان الاستئناس ، والسلام واجبين ، وقد ذكر في أدب السلف الصالح أنه إذا وجد البيت بابه مفتوحا ، يستأذن وهو واقف بجانب منه .
وننبه هنا إلى أمرين:
أولهما:أن السلف الصالح كانوا يذكرون أسماءهم عند الاستئذان والاستئناس ، فعمر رضي الله تعالى عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر ، وكذلك أبو موسى الأشعري ، ويكره أن يقول المستأذن:( أنا ، من غير ذكر اسمه ) .
ثانيهما:أنه يستأذن على محارمه وغيرهم ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل من رجل:أيستأذن على أمه ؟ فقال:نعم ، أترضى أن تراها عارية{[1564]} .
وفي الحق:إن الاستئناس والتسليم لثلاثة أسباب . أولها:أن يكون صاحب البيت ليس على حال يصح للقاء واستقبال الناس . وثانيها:احترام الملكية ، سواء أكانت ملكية عينية بأن يكون البيت ملكه ، أو ملكية منفعة إذا كان مؤجرا ، وثالثها:إزالة وحشة المفاجأة .
وقد ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله عز من قائل:{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الإشارة إلى هذه الآداب الكريمة ، والخطاب لمن وجه إليهم الخطاب في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} ، وكان الخطاب بلفظ الجمع ، لأن المخاطبين جمع ، وتكون "ذلك"بالخطاب المفرد ، إذا كان المخاطب محمدا وحده ، وإنه بتقصي ذلك في القرآن تثبت هذه التفرقة في الخطاب . وقد خاطب بالإشارة بأمرين:
أولهما:أنه{ خير لكم} ، لكي تصان الأعراض ، وتستر العورات ، ولا يكون نطاق اتهام ، ونفور بالاستيحاش ، وحيث كشفت الأستار كانت الفتن وكان ظن السوء ، فتسود القطيعة ، والتفاحش ، ورمى الأبرياء .
ثانيهما:رجاء التذكر وتعرف المصلحة وتحري الاحتشام ، حتى من الآباء والأمهات .