وقد ذكر سبحانه وتعالى:{ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 28 )} .
الآيتان متصلتان ، وهذه الآية تفريع على الآية السابقة ، فالسابقة فرض فيها الإذن بعد الاستئناس والسلام ، وإن كان فيها أناس استأذنوا ، واستأنسوا ، وسلموا عليهم ، وهذه الآية مفروضة في جزء منها في حال إذا لم يجدوا أحدا ، والجزء الثاني مفروض فيه إذا لم يكن إذن ، بل كان الأمر بالمنع والرجوع .
فأما الجزء الأول فقد قال تعالى:{ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} فاصبروا حتى يوجد أو يحضر من يأذن لكم من أهل البيت ، وقد يقال:إنه لا أحد يخشى الاطلاع على المستور من عوراته ، وقد أجاب الزمخشري على ذلك الاعتراض بقوله:"ذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، إنما شرع لئلا يقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب"{[1565]} .
الفرض الأخير هو حال الرجوع ، بين سبحانه حال الإذن ، وحال خلو البيت وبقيت حال الرد ، وطلب الرجوع وعدم الدخول ، وهذا كما ترى متشعب عن الاستئناس ، فقال تعالى:{ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} والفاء واقعة في جواب الشرط ، "أزكى"معناها أطهر وأكرم ، لأنها لا تصح اللجاجة ، فإن ذلك يكون خسة بكم ، ولا يليق بكرامة الكريم .
ويقول الزمخشري عند قوله تعالى:{ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} ألا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلحوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب منتظرين ، لأن هذا ما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس وخصوصا إذا كانوا ذوي مروءة ، ومرتاضين بالآداب الحسنة ، وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إلى ذلك بعنف ، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل من لم يتهذب من الناس .
وقوله تعالى:{ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} بمعنى الطهر ، أي هو أطهر لكم ، وأكرم ، وأنمى لمروءتكم ، ثم قال تعالى:{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، أي الله تعالى يعلم ما فيه خيركم وطهركم وأليق بكرمائكم ، وما يبعد المنافرة بين جماعتكم ، وأنتم لا تعلمون خيركم ، و ما فيه طهارتكم وسموكم ، ومعرفة الفاضل من أموركم ، أي الله تعالى يعلم ما تعملون من خير وشر ولائق وغير لائق ، عليم به ، وقدم{ بِمَا تَعْمَلُونَ} على{ عليم} للأهمية وللاختصاص ، وقبل الكلام في معاني هذه الآية الحكيمة وما قبلها نقول:إنه سبحانه لم يقل:فإن لم يأذنوا ، بل قال{ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} للإشارة إلى أن عدم الإذن يتضمن الأمر بالرجوع يفهمه ذو الإحساس المرهف المدرك المنفذ لما يكون فيه حفظ للمروءة وصون للكرامة ، وذلك يشير إلى منع اللجاجة ، وألا يدخلوا بيوتا لا يرغب في دخولهم أصحابها