الاستئذان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 27 ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 28 ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 29 )} .
/م27
التفسير:
27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
تستأنسوا: تستأذنوا ،إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت ،وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول .
تذكرون: تتعظون .
أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة ،ومن ذلك ألا يدخلوا بيوت غيرهم ،إلا بعد الاستئناس: وهو الاستعلام ،واستكشاف الحال هل يراد دخولهم أم لا .
وفسر بعضهم الاستئناس بالاستئذان ،وعند التدقيق نجد بين المعنيين فرقا لطيفا لا ينبغي أن يصرف النظر عنه ،فالاستئناس: تلمس الحالة النفسية ،والرغبة الوجدانية ،لأصحاب البيت ،ومن ذلك اختار الوقت المناسب ،واستخدام المسرة ( التليفون ) لتعرف الاستعداد لتقبل الضيف ،ورضاهم عن زيارته أم لا ،فالاستئناس أعم وأشمل من كلمة ( الاستئذان ) ،إن الاستئذان طلب الإذن بالدخول أو عدمه ،أما الاستئناس: فهو معرفة التهيؤ ومدى استعداد المزور للأنس بالزائر .
وقيل: الاستئناس ،الاستعلام ،ومعنى تستأنسوا: تستعلموا ،أي: تحاولون إعلام صاحب البيت بقدومكم ،قال مجاهد: بالتنحنح ،أو بأي وجه أمكن ،ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به ،ويدخل إثر ذلك .
وفي سنن ابن ماجة ،عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله ،هذا السلام ،فما الاستئناس ؟قال: ( يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ،ويتنحنح ويؤذن أهل البيت )103 .
والسنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها ،قال ابن وهب: قال مالك: الاستئذان ثلاث ،لا أحب أن يزيد أحد عليها ،إلا من علم أنه لم يسمع ،فلا أرى بأسا أن يزيد ،إذا استيقن أنه لم يسمع104 .وثبت في الصحيح: أن أبا موسى الأشعري ،حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فانصرف ،ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ( يعني: أبا موسى ) يستأذن ؟ائذنوا له ،فطلبوه فوجدوه قد ذهب ،فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك ؟قال: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ،وإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له ؛فلينصرف )105 .
ويتعلق بالاستئذان ما يأتي:
1 – ينبغي ألا ينظر ببصره في دار غيره إلا بإذنه .روى البخاري ،ومسلم ،عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر )106 ،فخلوة الإنسان مكفولة له ،ورسائله وخطاباته لا يصح أن يقرأها أحد بدون إذنه .
روى أبو داود ،عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار )107 .
2 – إذا جاء إلى بيت قوم ليستأذن ،فينبغي ألا يقف حيال الباب ،ولكن من جانب الباب الأيمن أو الأيسر ،روى أبو داود ،عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ،ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: ( السلام عليكم ) .وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور108 .
3 – ينبغي أن يكون الطرق على الباب خفيفا بحيث يسمع ،ولا يعنف في ذلك ،وكذلك استخدام جرس الباب ينبغي أن يكون خفيفا لا ثقيلا ولا مزعجا ،روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كانت أبواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقرع بالأظافر109 .
4 – صورة الاستئذان ،أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل ؟فإن أذن له دخل ،وإن أمر بالرجوع انصرف ،وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ،ولا ينبغي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات متوالية ،بل ينبغي أن يكون بين كل استئذان وآخر فصل من الزمن ؛حتى إذا كان صاحب الدار مشتغلا بأمر يمنعه من الإذن فليفرغ منه .
5 – ينبغي أن يعرف الطارق بنفسه تعريفا يزيل عنه الجهالة ،وإذا قال له صاحب الدار: من أنت ؟يقول: محمد أو إبراهيم مثلا ،ولا يقول: أنا ،روى الشيخان وغيرهما ،عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( من هذا ) ؟فقلت: أنا ،فقال النبي: صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنا ،أنا ) كأنه كره ذلك110 .
قال علماؤنا: إنما كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ،لأن قوله: أنا ،لا يحصل به تعريف ،وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه ،كما فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وأبو موسى ،لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب ،ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مشربة له ،فقال: السلام عليك يا رسول الله ،السلام عليكم أيدخل عمر111 ؟.وفي صحيح مسلم: أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم ،هذا أبو موسى ،السلام عليكم ،هذا الأشعري ...الحديث112 .
6 – يستحب أن يستأذن الرجل قبل دخوله بيته ،أو يأتي بما يدل على قدومه كالتسبيح أو التنحنح ،فإنه قد تكون المرأة في شأن لا تحب أن يطلع عليه زوجها أو سيدها113 .وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا114 .
7 – جعل الفقهاء حكم السمع كحكم النظر ،فإذا دخل رجل أعمى في دار قوم ،فهو وإن كان لا ينظر إلى شيء بعينه ،ولكنه يسمع أحاديث أهل الدار ،وهذا أيضا تدخل غير مشروع في حق الخلوة كالنظر .ويلحق بذلك التحسس والتجسس على أحاديث الغير ،وسماع المكالمات التليفونية الخاصة بالآخرين ،ومن المعذبين يوم القيامة رجل تسمع لقوم وهم لاستماعه كارهون .ويتبادر إلى الذهن الحديث عن فضيحة ووترجيت ،وقد ثبت فيها أن الرئيس نيكسون سمح بالتنصت على الحزب المنافس له ،وأدى اكتشاف ذلك مع ملابسات أخرى إلى إجباره على الاستقالة .وديننا الحنيف دعا إلى أدب الاستئذان منذ أربعة عشر قرنا ،وفي إحياء آداب ديننا إعادة لأمجاد الإسلام .
8 – لا يجب الاستئذان إذا عرض في الدار أمر مفاجئ شديد كمريض يستغيث ،أو حريق ،أو هجوم سارق أو غاصب ...إلخ .
9 – لا عبرة إلا بإذن صاحب الدار ،أو من يعتقده المستأذن أنه يأذن من قبل صاحب الدار ،كالخادم وغيره من أفراد الدار المسئولين ،فإن كان الآذن طفلا فلا يكفي إذنه .
10 – عندما يأذن أصحاب الدار بالدخول ينبغي أن يبدأهم بالسلام عند مشاهدتهم ؛لقوله تعالى: حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ...
وظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا ،وعليه جمهور الفقهاء ،فكل من الاستئذان والسلام مطلوب ،غير أن الطلب فيهما متفاوت ،فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب ،والطلب في السلام على سبيل الندب ،كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن .
وظاهرها أيضا تقدم الاستئذان على السلام ،لأن الأصل في الترتيب الذكرى أن يكون على وفق الترتيب الواقعي ،وبهذا الظاهر قال بعض العلماء ،وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان ،وحجتهم في ذلك عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الترمذي ،عن جابر – رضي الله عنه -: ( السلام قبل الكلام )115 .وما أخرجه ابن أبي شيبة ،والبخاري في الأدب ،عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم ،قال: لا يؤذن له حتى يسلم .وبعض العلماء فصل في المسألة وقال: إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت ،سلم أولا ثم استأذن في الدخول ،وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم ،قدم الاستئذان على السلام .وهذا قول جيد ،ولا ينافيه حديث الترمذي والبخاري ،فإنه يمكن أن يحمل ذلك على الحالات التي يكون فيها القادم ،بحيث لا يرى أهل البيت ،فالأفضل أن يقدم الاستئذان على السلام ،كما هو ظاهر الآية ،إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار ،فينبغي أن يجيبهم أولا ثم يستأذن ،وفي هذا جمع بين الأدلة116 .
11 – كان العرب في الجاهلية يدخلون البيوت بغير استئذان ،ويهجمون على البيت هجوما ،ويرون أن الاستئذان مذلة تأباها النفوس .فلما شرع الله أدب الاستئذان قال سبحانه: ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون .أي: أن أدب الإسلام في الاستئذان والسلام ،خير مما كان عليه العرب في الجاهلية .فقد جعل الله البيوت سكنا ،يفئ إليها الناس ،فتسكن وتطمئن قلوبهم ونفوسهم ،ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ،ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب .
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا ،لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم ،وفي الوقت الذي يريدون ،وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا الناس عليها .
وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته ؛يقول: حييتم مساء ،ثم يدخل ،فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد .فأرشدهم القرآن إلى آداب الزيارة ،ثم بين أن هذه الآداب خير وأفضل لحفظ النفوس والأعراض ،والبعد عن الفتنة ،كي تتذكروا وتعملوا بما أمرتم به .