ولذا عقب هاتين الآيتين ببيان تسبيح الطير في السماء فقال عز من قائل:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 41 )} .
الاستفهام في{ ألم تر} ، إنكاري بمعنى النفي مع التنبيه إلى الحقائق لإدراكها ، وهو داخل على نفي ، وهو ( لم ) ، ونفي النفي إثبات ، والمعنى:قد رأيت أن الله يسبح له من في السموات والأرض ، ومعناها يقدسه ويخضع له ويسجد ، أما تسبيحه فلأنه يدل على كمال الله تعالى ، وتنزيهه عن مشابهة الحوادث ، وأنه واحد أحد ، وأنه صمد ليس بوالد ولا ولد ، وأما السجود ، فهو الخضوع الكامل لله تعالى .
والتعبير ب ( من ) في قوله تعالى:{ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} مع أن فيها ما لا يعقل ، فلأنها كلها في دلالتها على التسبيح أقيمت مقام العاقل ، ولأن فيها عقلاء وغير عقلاء ، غلّب في البيان العقلاء ، لأنهم أعلى مكانة من غيرهم كالملائكة ، فإنهم أعلى من غيرهم ، ومثل ذلك عقلاء الإنس والجن المهديون ، وغيرهم .
{ وَالطَّيْرُ} لما فيها من إعجاز من أنها تطير ، وتسير في الفضاء من غير أن يكون سيرها على أجرام جامدة تتحمل ما يسير عليها ، بل هي تسير من غير جرم جامد ثقيل تسير عليه ، ولذلك خصها بالذكر لفضل ما تدل عليه من إبداع في الخلق والتكوين ، حتى كانت موضع درس للإنسان فأراد أن يقلدها ، وتم له ما أراد فكانت الطائرات التي تقطع أجواز الفضاء ، وسبحان من خلق كل شيء من غير مثال سبق ، وقوله تعالى:{ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} ، أي تطير في الفضاء تسير صافات ، أي في صفوف متتالية ومتوازية ، الأجنحة وراء الأجنحة ، كما ترى في أسراب الحمام وغيرها من الطير من انتقالها من مكان إلى مكان متآخية منتظمة في صفوف ، وذلك من إلهام العلي الخبير لها ، والطير بالرفع عطف على{ من} أي أن الطير تسبح ، كما يسبح كل من في السموات والأرض ، وذكر مع ذلك إبداع الله تعالى خلقها ، وما ألهمها إياه ، وما سخر لها من فضاء بالسير لمسافات .
إن فاعل ( علم ) يعود على الله تعالى أي كل فريق وطائفة ، وخلق من خلقهعلم الله تعالى صلاته وتسبيحه ، وقالوا:إن الصلاة تكون من العقلاء المهديين ، والتسبيح بالخضوع والدلالة بالخلق والإبداع يكون من غير المهديين وغير العقلاء فهم في صفهم ، فهم كالأنعام ، بل أضل سبيلا .