ولقد بين سبحانه حال الذين كذبوا بآيات الله تعالى ، ولم يذعنوا للحق بعد خذلانهم في كل مجال:
{ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس}أي أحاطت بهم الذلة كما يحيط السرادق بمن فيه ، وكما تحيط القبة بما في داخلها ، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذلة ، لا ينتقلون من ذل إلا إلى ذل ، و{ أين ما ثقفوا}معناها أينما وجدوا جماعات ووحدانا ، فجماعاتهم في ذلة ، وآحادهم في جبن ، ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله ، والاعتزاز بعزته ، فاعتمدوا على عزة من الناس ، ومن اعتمد على ان يستمد عزته من غير الله فهو الذليل ، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله فحقت عليهم كلمة الذلة .
ولقد استثنى سبحانه حالا يرتفعون فيها من الذلة فقال تعالى:{ إلا بحبل من الله وحبل من الناس} . والحبل معناه في أصل اللغة ما يربط بين شيئين ، ويطلق على العهد ، وقد فسره جمهور المفسرين هنا بهذا المعنى وهو العهد ،فالمعنى لا ترفع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهد من الله تعالى وعهد من الناس ، وذلك العهد هو عقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين ، فهو حبل من الله تعالى يصلهم بأهل الإيمان غذ هي بأمر الله تعالى ، والوفاء بها وفاء بعهد الله ورسوله ، إذ يقول سبحانه:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا . . .91} [ النحل] . والجزية أيضا حبل يربطهم بالمؤمنين ؛إذ يكونون بهذا العهد بين المسلمين ، ترعى حقوقهم وتحفظ أموالهم ودماؤهم ، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم .
وهذا تفسير حسن ، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها وأحكامه المقررة الثابتة ، ولكن يلاحظ ان الله سبحانه قرر الاستثناء ان حبل العزة هو حبل من الناس ، ولم يذكر انه حبل من المؤمنين ؛ إذ يقول سبحانه:{ إلا بحبل من الله وحبل من الناس} .ولذلك يصح ان يفسره بما هو أعم من الجزية ، فإن حبل الناس أوسع من معنى الجزية ، وإن ذلك يفسره بعض الوقائع التي تجري في العصور الأخيرة ، فقد كانت لهم عزة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس ، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسنة والهدى الإسلامي ، ولكنه على كل حال استثناء ؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة ، وإنه ليرجى ان يعود الإسلام كما بدأ في قلوب أهله ، فيتحقق وعد الله لهم ، إذا تحققت أسبابه .
{ وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة} أصل معنى"باء"ساوى ، فيقال باء فلان بدم فلان ، أي:ذهب وساواه ، ومن ذلك ما جاء في بعض أقاصيص العرب على لسان المهلهل أخي كليب:"بؤ بشسع نعل كليب"أي انه لا يساوي إلا هذا ، ويطلق البواء بمعنى الإقامة ، ومنه المباءة والبيئة أي شكل الإقامة ، والمعنى الجملي أنهم قد صاروا في غضب ، ويعتبر هذا مباءتهم التي باءوا بها والتي هم يستحقون ، وقد ضربت عليهم المسكنة ، أي أحاطت بهم واستولت عليهم ، والمسكنة ضعف نفسي ، وصغار ينال القلب ، فيستصغر الشخص نفسه ، ويحس بهوائها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة ، والفرق بينهما وبين الذلة ان الذلة هو أن تجئ أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قوى ، أو يكون نتيجة انهزام حربي ، اما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق ، وإتباعها للمادة ، وإن توارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة ، إن بواء اليهود والنصارى بغضب الله ، وضرب المسكنة عليهم ، لا استثناء فيه ، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم ، ولا يغرنك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد ، بل انظر إليهم إن أصابت فريقا منهم هزيمة فإنهم يخرون للأذقان يبكون صاغرين ، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم ؛ إذ عزة الحق قد فارقتهم .ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في استحقاق أهل الكتاب ذلك فقال تعالت كلماته:
{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} الإشارة إلى هزيمتهم المستمرة ، وأنهم لا يمكن ان ينتصروا ، وان الذلة ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، وأنهم في غضب من الله ، وان المسكنة قد ضربت عليهم إلى يوم القيامة ، فالصغار ملازمهم ، لا يفارقهم أبدا ، لأن الصغار والإيمان بالباطل متلازمان لا يفترقان . وقد ذكر سبحانه ان السبب في كل هذا أنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي بأمارات الحق وأدلته التي يقيمها الله سبحانه وتعالى عليهم في كتبه وخلقه وعلى ألسنة رسله ، وأنهم لا يكتفون بجحود الحق بعد قيام البينات عليه ، بل يعتدون على الداعي إليه ، فيقتلون الرسل الذين ينادون به ، ويجاهدون دونه ، ولقد قال سبحانه وتعالى:{ ويقتلون الأنبياء بغير حق} والحكمة في ذكر هذا انهم لم يكونوا في اعتدائهم لهم أية شبهة حق ، ولذا نكر كلمة حق ، وقد بينا هذا من قبل ، ولماذا كان ذلك الكفر ، وهذا الجحود المستمكن الذي يدفع إلى قتل الداعي إلى الحق ؟ ذكر سبحانه ذلك بقوله:{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}:
أي ان الذي أورث في قلوبهم الجحود بالحق ، والتمادي في الباطل ، هو ارتكاسهم في المعاصي ، وتعودهم الاعتداء على الناس ، فإن المعاصي تنكت نكتا سوداء في القلب ، فإذا استمر الشخص عليها وضعت عليه أغلفة من الظلمة تمنع ان يصل الحق إليه ، فعمى القلب عن الحق وصم ، ولذا قال تعالى:{ مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا . . .25}[ نوح] وقانا الله شر المعاصي ، وجعل قلوبنا تشرق بنور حكمته ، ووفقنا لقصد السبيل ، وجنبنا جائرة ، إنه سميع الدعاء .