وإذا كانوا يعيشون هذه الهزيمة النفسية في حياتهم ،فإنَّ ذلك يوحي لهم بعدم الثقة بالنفس ،ما يدفعهم إلى الابتعاد عن الاندماج في المجتمعات الأخرى خوفاً من عواقب التحدّي ،فيظلّون على الهامش من ناحية ذاتية ،وهذا ما تعبّر عنه الآية:]ضربت عليهم الذِّلَّةُ أين ما ثقفوا[ أي وجدوا ،لأنَّ قضية العزّ والذل لا تنبع من خارج الذات بل تنطلق من داخلها ،من خلال الشعور بالقوّة والاكتفاء والاستقرار الروحي ،فإذا فقدت ذلك كنت ذليلاً في نفسك وإن أحاطت بك مظاهر العزّ من حولك ،وهذا ما عاشه اليهود في مختلف العصور مع سائر الأمم ،فقد كانوا يعيشون هاجس الخوف من الآخرين ،ما جعلهم يعيشون العزلة ،ويوحون لغيرهممن خلال ذلكباضطهادهم نتيجة فقدان روح المقاومة التي تتحدّى الموت عندهم .وهكذا كانت القضية في التاريخ ،ولكن ذلك لا يمنع من أن يملكوا بعض زمام القوّة في مراحل أخرى من الحاضر والمستقبل ،لأنَّ الظروف الموضوعية التي تحيط بحركة الحياة ،ربَّما تفسح المجال للذليل أن يكون عزيزاً ،وللضعيف أن يكون قوياً ،لا من جهة العزّة والقوّة الداخليتين ،بل من جهة ضعف الآخرين ،ووقوفهم في مواقع الذِّلَّة ،وبذلك تمتد لهؤلاء الفرصة]إلاَّ بحبل من اللّه[ في ما تقدّره من ارتباط المسببّات بأسبابها ،]وحبل من النَّاس[ في ما يهيّئونه لهم من وسائل القوّة الخارجية السياسية والعسكرية وغير ذلك .
بين ضرب الذِّلَّة على اليهود وسيطرتهم على مقدرات العالم:
وبهذا كانت المسألة في الآية في موضوع ضرب الذّلّة على اليهود خاضعةً للحالة الذاتية التي يعيشونها على أساس عقدتهم التاريخية في الشعور بالانفصال عن الآخرين ،ما يوحي بالانكماش والعزلة الروحيّة التي تختزن الخوف والذّلّة النفسية ،فلا مانع من أن يحصلوا على القوّة من خارج .ومن هنا ،لا تبقى أمامنا مشكلة الواقع الذي يعيشه اليهود الآن في سيطرتهم على مقدرات العالم السياسيّة والماليّة من خلال ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من مراكز القوى في مختلف أنحاء العالم ،الأمر الذي أدّى إلى سيطرتهم على أرض فلسطين وتشريدهم أهلها منها ؛فإنَّ ذلك كان من خلال المعادلات السياسيّة العالميّة التي تمكنوا من استغلالها واللعب على تناقضاتها بمختلف أساليب اللف والدوران ،التي كانت تصل بهم إلى أهدافهم من مواقع إثارة حالة الاضطهاد التي عانوها ،ما جعل العالم الأوروبي يعيش عقدة الذنب تجاه مشكلتهم ...هذا بالإضافة إلى ضعف المسلمين وانسحابهم من الساحة وتخاذلهم وابتعادهم عن القاعدة الفكرية التي تمنحهم قوّة الروح والموقف ؛ما جعل كلّ فئةٍ تعيش مشاكلها الخاصّة بعيداً عن مشاكل بقية المسلمين ،وذلك من خلال الحدود والشخصيات المصطنعة التي وضعت لكلّ جماعة منهم ،فلم يواجهوا المخططات اليهودية بوجهٍ واحد قويّ ،بل واجهوها بالأساليب المهزومة الضعيفة ؛وربَّما حاول الكثيرون منهم أن يشاركوا في دعم تلك المخططات لحساب القوى الاستعمارية الكافرة التي يرتبطون بها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ...
إنَّ خلاصة الفكرة القرآنية هي أنَّ اليهود شعب معقّد معزول عن العالم من خلال العقد التاريخية والجرائم الكثيرة التي قام بها تجاه الحياة في مقدساتها وقضاياها ...فلا يمكن له أن يستقل ويتقدّم ويأخذ بأسباب العزّة من ناحية ذاتية ،بل لا بُدَّ في ذلك من وجود ظروف للآخرين تسهّل لهم مهمة القفز إلى المواقع التي تركها الآخرون أو سهلوا لهم أمر السيطرة عليها ...
]وباءوا بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنَّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون[ في ضعف الروح التي تعيش الهزيمة .إنَّ السبب في ذلك هو الكفر المستمر بآيات اللّه التي يظهرها على أيدي أنبيائه الذين لا يتعاطفون معهم ،وجرائمهم الكثيرة في قتل الأنبياء بغير حقّ ومعصيتهم وعدوانهم ،الأمر الذي فرض عليهم العقوبة في الدُّنيا والآخرة .