وقد ذكر الله سبحانه أوصافهم فقال تعالت كلماته:
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر} هذا النص الكريم فيه بيان حال من أحوالهم ، وهي الحال الدائمة المستمرة التي جعلتهم مستقيمين على الحق مهتدين بهديه ، فإن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يذعن للحق ، ويخلص في كل ما يطلب ، ولا يحب الشيء إلا لله ، ويكون الله تعالى سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق جل جلاله ، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعا لأوامر الله تعالى ونواهيه . هذا هو الإيمان بالله ، اما الإيمان باليوم الآخر ، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا ، وأنها لعب ولهو ، وزينة وتفاخر ، وانه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى ، وانه إذ يلقاه يجد كل ما عمل من خير محضرا ، وما عمل من شر يود لو ان بينه وبينه أمدا بعيدا ، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء ما أقدم على شر إلا مضطرا أو لماما .
{ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} هذا هو العمل الذي يفيضون به على غيرهم ، ويشعرون بأن عليهم حقا بالنسبة للحق الذي أدركوه ، وهو ان يتواصوا بالحق ، ويتناهوا عن الباطل ، ويأمروا بالمعروف الذي تقره العقول ، ولا تنكره الفطرة المستقيمة ، فإن المؤمن المذعن للحق يدعو إليه ، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه ، وتلك صفة اهل الخير من اهل الكتاب ، وعلى عكس ذلك اهل الشر ، فغنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه .ولذا قال تعالى في اهل الشر منهم:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون79}[ المائدة] .
{ ويسارعون في الخيرات} هذه حال من أحوالهم المستمرة ، وهي أنهم في خير مستمر ، لا يجدون لحظة إلا يقومون فيها بخير ، ولا تلوح لهم فرصة خير إلا يقدمون عليها .
ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير ب"في"دون "إلى"إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات ، ولكنه سبحانه وتعالى قال:يسارعون في الخيرات ، للإشارة إلى ان هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير ، فهم ينتقلون من خير إلى خير ، في دائرة واحدة هي دائرة الخير ، ينتقلون بين زواياها وأقطارها ، ولا يخرجون منها ، فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير ، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير ، فكان التعبير ب"في"له موضعه من البيان .
{ وأولئك من الصالحين} الإشارة هنا إلى الموصوفين بالصفات السابقة ، من تلاوة الكتاب في خشوع وخضوع وتعرف لمراميه ومعانيه ، وإذعان لحقائقه و مغازيه ، ومن خضوعهم المطلق لله سبحانه وتعالى ، ومن إيمانهم حق الإيمان بالله تعالى ، وتصديقهم لكل ما جاء عن الله تعالى ببيناته وأدلته ، ورجائهم لليوم الآخر ، وخوفهم من عذابه ، وترقبهم في كل ما يعملون لحسابه ، فهذه الأوصاف كلها سلكتهم في عداد الصالحين ، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى:والصالحون ، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم ، وفي التعبير بقوله تعالى:{ من الصالحين} إشارة إلى أنهم بهذه المزايا ، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى:وذكر ان أكثرهم فاسقون ، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين .