ثم بين سبحانه بعضا من أسباب نصره ، فقال:{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} .
الرعب الخوف والانزعاج ، او امتلاء النفس بالخوف والانزعاج ،حتى تضعف الجماعة مع وجود أسباب القوة ، واصله من الملء مع الاضطراب ، يقال سيل راعب ، يملأ الوادي ويضطرب به ، ورعبت الحوض ملأته ، ومعنى إلقاء الله تعالى بث روح الخوف والفزع في قلوبهم ، وإن إلقاء الله تعالى الرعب في قلوب المشركين كانت له مظاهر شتى:منها ان يضع سبحانه وتعالى فيهم الفزع ، فيخافون عند النصر لهم من متابعته ، كما كان عقب احد ،فإن المشركين سارعوا بالعودة وبينما هم في الطريق ندموا وقال قائلهم:بئس ما صنعنا ، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد ثم تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم ، ولما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب ، فانصرفوا لا يلوون على شيء ، ومن مظاهر النصر بالريح ، كما كان في غزوة الأحزاب ، فقد جاءت إلى المشركين ريح شديدة قذفت في قلوبهم الرعب ، فعادوا ولم ينالوا شيئا ، وقال تعالى في ذلك:{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا25}[ الأحزاب] .
وقد روى في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسا لم يعطهن احد من الأنبياء قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس جميعا"{[589]} .
وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في إلقاء الرعب في قلوب أعداء اهل الإيمان فقال سبحانه وتعالى:{ بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} والسلطان هنا هو الحجة والدليل ، كما قال تعالى:{ والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . . .35}[ غافر] ، وكما قال تعالى:{ فأتوا بسلطان مبين10}[ إبراهيم] ، وقال:{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين96}[ هود] .
فالمعنى انهم أشركوا بالله أحجارا لم ينزل الله بها حجة مثبتة لصحة عبادتها ، لأنه لا دليل على سلامة هذه العبادة ، ولا يوجد دليل قط يؤيدها . ويصح ان يفسر السلطان هنا بمعنى القوة والتمكن ، والمعنى على هذا انهم أشركوا بعبادة الله تعالى أشياء لم ينزل أي لم يجعل فيها قوة تنفع وتضر ، فهم يعبدون ما لا يملك نفعا ولا ضرا ، ويشركونه في العبادة مع الذي يملك كل شيء ، وهو الذي ينفع ويضر من غير شريك .
والسببية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله:{ بما أشركوا بالله}لها توجيهان:
أحدهما:ان الله تعالى يلقى الرعب في قلوبهم لنهم عاندوا الله سبحانه ، وحادوه ، وأشركوا معه في العبادة ، ولنهم ينشرون بهذا التفكير الفاسد الشر والفساد في الأرض ، والله تعالى لا يحب الفساد ، وهو ينصر الخير على الشر ، والصلاح على الفساد ، فالسببية هي إرادة الله تعالى التي بها قوام كل معوج وصلاح كل فاسد .
وثانيهما:ان السبب في إلقاء الرعب من حالهم هم ؛ذلك لنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر ، ولا تقوم عندهم حجة ولا شبه حجة على صلاحية ما يعبدون للعبادة ، ويكون الوهم هو الذي سيطر ، والهوى هو الذي تحكم ، ومن تتحكم فيه أهواؤه وأوهامه يكون مضطرب النفس مزلزل القلب تزعجه الكوارث ، ويضطرب عند نول أي حادث ، فكان الشرك وتحكمه في النفس هو السبب في الرعب والخوف والفزع ؛ إذ هم يخافون من غير مخوف ، ويفزعون في غير مفزع .
تلك هي حال الكافرين الذين ناوءوا أهل الإيمان ، كان سبحانه يلقى الرعب في قلوبهم ، ويثبت قلوب المؤمنين ، فهل هذه سنة اهل الإيمان مع المشركين وأشباههم دائما ؟ .
والجواب عن ذلك:انه شان المؤمنين حقا وصدقا إذا لم يضعفوا ولم يذلوا ولم يوالوا أعداء المؤمنين على المؤمنين ، بل يأخذون الأهبة ، ويغلبون الهدى على الضلال ، ويجعلون الله مولاهم ، فإذا رأينا الحال قد تغيرت ، فليس ذلك لتغير سنة الله في خلقه ، ووعده لأنبيائه والصديقين معهم ، بل لتغير حال المؤمنين ،{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال 11}[ الرعد] ولقد تنبأ صلى الله عليه وسلم بما آل إليه المسلمون ، وبين ان ذلك سببه الوهن الذي يتولد عن حب الدنيا ، وكراهية الموت ، وإنه عندما تصاب القلوب بهذه الإصابة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ينزع من قلوب أعدائهم المهابة منهم ، فقال عليه الصلاة والسلام:"ولينزعن من قلوب عدوهم المهابة منكم"{[590]} .
فإذا كنا نرى المؤمنين قد ألقي في قلوبهم الرعب بدل الكافرين ، فليس في هذا مخالفة لوعد الله ؛ لن بعض المسلمين في هذه الأيام والوا الكافرين على المؤمنين ، وذلوا تحت ولايتهم واستخذوا لهم واستعدوهم على اهل الإسلام ، فنزع الله المهابة من اهل الإيمان ، فكان ما كان ، وشرط إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ألا نطيعهم ، فقد وقعنا إذن في المنهى عنه في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا عن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين149}[ آل عمران] .
ولقد اطعناهم وواليناهم دون المؤمنين ، ولم نتخذ الله مولى لنا ، فخسرنا خسرانا مبينا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
{ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} المأوى اسم مكان من أوى يأوي وهو الذي يرجع إليه الشخص ويعود إليه ، ويقيم فيه إقامة طويلة ، والمثوى اسم مكان من ثوى يثوي أي أقام إقامة لا نهاية لها ، والمعنى ان الكافرين إذا ألقى الله في قلوبهم الرعب خسروا وباءوا بخسرانهم في الدنيا ، وليس لهم مأوى في الآخرة إلا النار ، وبئس هذه النار موضع إقامة دائمة لهم ، وقد اظهر سبحانه وتعالى الاسم في موضع الإضمار ، فلم يقل تعالت كلماته:وبئس النار مثواهم ، بل قال:{ وبئس مثوى الظالمين} للإشارة إلى ان هذا المآل جزاء وفاقا لظلمهم فهو عقاب يستحقونه بسبب الظلم ؛إذ قد ظلموا انفسهم فأضلوها وصدروها عن الحق وسبيله بسبب الغواية التي ارتضوها ، وظلموا الحق فصدقوا الناس عنه ، وظلموا المؤمنين وحاولوا ان يفتنوهم عن دينهم واعتدوا عليهم وعثوا في الأرض مفسدين ، وخضبوها بالدماء البريئة ، فكان ما لقوه من هزيمة ورعب وخسران في الدنيا بعض الجزاء ، والجزاء الأوفى في الآخرة .اللهم قنا عذاب النار ، اللهم أهدنا فيمن هديت ، وتولنا فيمن توليت ، وقنا شر ما قضيت . اللهم أعزنا بعزتك ، اللهم قنا شر الاستخذاء والولاية لغيرك ، إنك سميع الدعاء .