ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة بعد ذكر بيان السبب في الذنب ، فقال تعالت كلماته:{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} .
التولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار ، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال ، ومن ذلك قوله تعالى:{ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا . . .56}[ المائدة] ، و{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم . . .13}[ الممتحنة] وإذا كانت متعدية ب"عن"أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته ، وهي هنا لذلك ، والتولي الذي وقع فيه أولئك الذين ذكرهم سبحانه يوم التقى الجمعان كان في احد ويشمل فريقين:احدهما الذين أقبلوا على الغنيمة وتركوا مواقعهم من الرماية فأولئك بتركهم مواقعهم وإقبالهم على الغنيمة كانوا مدبرين يشبهون الفارين( والفريق الثاني ) الذين فروا من القتال يوم أن اضطربت الموقعة وأصيب المؤمنون بجراح ، وكانت فيهم مقتلتهم . وقد ذكر سبحانه السبب فقال تعالى:{ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} ومعنى استزلهم الشيطان طلب لهم الزلل وسهله لهم ببعض ما كسبوا من صغائر ؛ فإن النفس تمرد عليها{[596]} وتسير في طريقها ، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني:استزله إذا تحرى زلته .وقوله تعالى:{ إنما استزلهم الشيطان} أي أستخرجهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه ، ومعنى هذا ان الشيطان لا يفتح معاقل النفس ، ويغزو مواضع الفضيلة ، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل ، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته ، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت ، وأحاطت بها الخطايا ، وسدت عنها منافذ الهداية والنور .
والمعنى الجملي ان أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح او فروا من الموقعة قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ان نفوسهم لم تتجه إلى الله بكلتيها ولهذا استزلهم الشيطان ، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم ، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال:{ ولقد عفا الله عنهم عن الله غفور حليم} .
وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات أولها:باللام فهي تنبئ عن القسم ، والثاني:قد ، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول ، والثالث:وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد ان العفو شأن في شئونه سبحانه ، والرابع:الوصف بالحلم فإنه سبحانه لا يسارع بالعقاب:{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة . . .45}[ فاطر] .
وقد أكد سبحانه امر العفو ، لتذهب عن نفوسهم حيرتها ، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جرئ ثابت ، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده .
ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، وانصرنا على القوم الكافرين .