{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون169 فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون170 يستبشرون بنعمة من الله وفضل وان الله لا يضيع اجر المؤمنين171 الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا اجر عظيم172}
ما زالت النصوص الكريمة في ذكر أعقاب غزوة احد التي كانت ابلغ درس إسلامي للغزاة خاصة ، وللمؤمنين عامة ، وقد كانت المسبار{[614]} الذي سبرت به النفوس ، وتكشفت به قلوب المؤمنين ، وأظهرت قلوب المنافقين ، ولقد كانت عباراتهم فيها شماتة بأهل الإيمان ، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ما ناله اهل الشهادة باستشهادهم ، وما هم عليه من روح وريحان ، وما يستقبلونه من جنات النعيم ، وقد بين في هذه الآيات الكريمة ما أعده الله سبحانه للمؤمنين المجاهدين الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح ، من اجر لا يضيع ، وعمل صالح يرى ، وقول طيب هدوا إليه يسمع ، وقد قال تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} .
وفي هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين ، وتحريض للمؤمنين ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة ، وهي ان الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء ، بل هو بقاء ، وان الموت ليس إنهاء للحياة ، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى ، او بعبارة أخرى هو انتقال من دور الحياة المادية إلى دور الحياة الروحية حتى تكون القيامة ، وتجزئ كل نفس بما كسبت ، عن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
نهى الله سبحانه وتعالى نبيه الأمين عن ان يظن أي ظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله تعالى أموات بل هم احياء ، والتأكيد هنا تأكيد للنهي ، أي ان الله تعالى ينهى نبيه نهيا مؤكدا عن ان يظن ذلك الظن ، ف"نون التأكيد"ليست لتأكيد الظن المنهى عنه ، بل هي لتأكيد النهي ، كما يقال:لا تفعلن كذا ، فليست النون لتأكيد الفعل ، بل هي لتأكيد النهي ، ولاشك ان نهي النبي صلى الله عليه وسلم نهى لغيره ، وغيره أولى بهذا النهي منه وأجدر ؛لأن الناس منهم من ظنوا بالله الظنون ، وقد أصابتهم حسرة شديدة ، وبعضهم أصابتهم خيبة آمال ، ومنهم من كان في ألم شديد للذين قتلوا منهم ، وقد وجه النهي للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ليكون انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لهم ، والنبي أقرب البشر إلى الله سبحانه ، فنهيه فيه تأكيد النهي لغيره .
والذين قتلوا في سبيل الله تعالى هم الذين قتلوا في سبيل الحق والدعوة إليه ، سواء أكان ذلك في ميدان القتال ، ام كان في ميدان الدعوة إلى الله تعالى وعلى صراط مستقيم ، وكل داع لله إذا قتل في سبيله او مات في طلبه فهو قد قتل في سبيل الله تعالى ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"{[615]} فمن قتل في هذه السبيل فقد قتل في سبيل الله تعالى .
وقد يقول قائل:كل ميت فهو حي بروحه ؛ لن الله تعالى قد بين في محكم آياته ان الموت ليس فناء ، كما قال سبحانه:{ كل نفس ذائقة الموت وغنما توفون أجوركم يوم القيامة . . .185}[ آل عمران] . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبته يوم بدر قتلى المشركين ان أرواحهم تسمع الكلام{[616]} ، فلماذا إذن اختص الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بأنهم احياء ؟ .
والجواب احد أمور ثلاثة:
( أولها ) ان هذا النص الكريم رد على شماتة الذين شمتوا من اليهود ، وتطيب لقلوب الذين فقدوا أحبتهم من المؤمنين ، وتشجيع للذين يحملون السيوف على عواتقهم لجعل كلمة الله تعالى هي العليا ، وكلمة الشرك هي السفلى .
( ثانيها ) ان النص الكريم تذكير بحقيقة مقررة ثابتة وهي ان الموت ليس فناء ، في وقت قد غامت فيه على النفوس غيمة من الألم المرير ، وقد كان أقرب المتوفين ذكرا في هذا الوقت هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله تعالى .
( ثالثها ) ان الله تعالى قد ذكر لأولئك الشهداء حياة ليست كحياة غيرهم ، بل هي حياة فيها تكريم واستبشار ورزق كريم ، ونعيم وسعادة ورضا بما كان منهم ، وأنهم قد نالوا جزاء كريما بمجرد الاستشهاد ، وان هذه الحياة السعيدة لا يصح ان يطلق عليها اسم الموت ، وإن كان يصح إطلاقها على غيرهم .
وما هذه الحياة التي ينالونها بعد الاستشهاد وما كيفها ؟ وإن كنا لا نشعر بها ولا نراها ، كما قال تعالى:{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل احياء ولكن لا تشعرون154}[ البقرة] ؟ . والجواب عن ذلك انه قد وردت احاديث كثيرة في هذا الباب تدل على حياة كريمة لهؤلاء الشهداء ، فقد روى مسلم عن مسروق:إنا سألنا عبد الله بن عباس عن هذه الآية:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون} فقال:إنا قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ،فاطلع عليهم اطلاعه ، فقال:هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا:أي شيء نشتهي ، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك ثلاث مرات ، فلما رأوا انهم لن يتركوا من ان يسألوا قالوا يا رب نريد ان ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى ان ليس لهم سؤال تركوا"{[617]} .
وهذا الحديث يدل على حياة كريمة ، وهي حياة روحية لا جسدية ، وأقصى ما يدل عليه التجسيد هو انها تكون في طيور خضر ، وان هذه الآية تشير إلى الجزاء الأوفى الذي يستقبلهم في الحياة الآخرة ، وإلى ان الأرواح بعد الموت إما في شقاء ، وغما في نعيم ، وان حياة أولئك الشهداء الأطهار في أحسن نعيم ، وأكمله ، ولذا قال سبحانه:{ عند ربهم يرزقون} .
في هذا النص الكريم ما يثبت ان حياتهم في هذه الفترة التي تكون بين الاستشهاد والحساب والثواب حياة كريمة سعيدة هنيئة ؛ لن فيه التصريح بأنهم عند ربهم الذي خلق الكون وخلقهم ، والذي جاهدوا في سبيله ، وقاتلوا وقتلوا ، وإذا كانوا عنده فهم عند من يكرمهم ومن يجازيهم جزاء عاجلا ، حتى يكون الجزاء الأوفى والنعيم المقيم ، عندما تتصل أرواحهم الطاهرة بأجسامهم التي يعيدها الله سبحانه وتعالى إليهم في سعادة وحبور .
والرزق الذي يرزقهم الله تعالى رزق معنوي من سعادة وهناءة ، وطيب مثوى تشعر به أرواحهم ويرون مقدمات جزاءتهم ، ولا نقول إنه في هذه الفترة مادي ؛ لأن الحياة في هذه الحال حياة أرواح قد انفصلت عن أجسادها ، والرزق حينئذ يكون معنويا ، وإن هذا معنى تقريبي ؛ لأن كل الأحاديث النبوية الواردة في هذه الفترة تشير إلى ان الحياة روحية ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مالك رضي الله عنه:"نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم مبعثه"{[618]} .
ولقد قال النبي صلى اله عليه وسلم مخاطبا صحابته من اهل بدر واحد:"لما أصيب إخوانكم يوم احد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد انهار الجنة ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم ، قالوا:يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا في الحرب"{[619]} .
وإن هذا الحديث وغن ذكر طعاما ماديا يتناوله الطير الخضر التي حلت فيها الأرواح هو يدل على ان الحياة روحية ، إذ الأرواح ليست في أجسادها .