مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان: «قيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً: ثمانية من الأنصار ،وستة من المهاجرين .وقيل: نزلت في شهداء أحد ،وكانوا سبعين رجلاً: أربعة من المهاجرين ،هم: حمزة بن عبد المطلب ،ومصعب بن عمير ،وعثمان بن شمّاس ،وعبد اللّه بن جحش ،وسائرهم من الأنصار ،عن ابن مسعود والربيع وقتادة .وقال الباقر ( ع ) وكثير من المفسِّرين: إنَّها تتناول قتلى بدر وأحد معاً .
وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة ،وكان سبب ذلك ما رواه محمَّد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس بن مالك وغيره ،قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة ،وكان سيِّد بني عامر بن صعصعة ،على رسول اللّه ( ص ) المدينة وأهدى له هدية ،فأبى رسول اللّه( ص ) أن يقبلها ،وقال: يا أبا براء ،لا أقبل هدية مشرك ،فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك .وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يعد ،وقال: يا محمَّد ،إنَّ أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل ،فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك ،رجوت أن يستجيبوا لك .فقال رسول اللّه ( ص ): إنّي أخشى عليهم أهل نجد .فقال أبو براء: أنا لهم جار ،فابعثهم فليدعوا النَّاس إلى أمرك .فبعث رسول اللّه( ص ) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين ،منهم الحارث بن الصمّة ،وحرام بن ملحان ،وعروة بن أسمى بن صلت السلمي ،ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ،وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ،وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحُد ،فساروا حتّى نزلوا بئر معونة .
فلمّا نزلوا قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلّغ رسالة رسول اللّه ( ص ) أهل هذه الماء ؟فقال حرام بن ملحان: أنا .فخرج بكتاب رسول اللّه ( ص ) إلى عامر بن الطفيل ،فلمّا أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول اللّه ،فقال حرام: يا أهل بئر معونة ،إنّي رسولُ رسولِ اللّه إليكم ،وأشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأنَّ محمَّداً رسول اللّه ،فآمنوا باللّه تعالى ورسوله .فخرج إليه رجلٌ من كسر البيت برمح ،فضرب به في جنبه حتّى خرج من الشقّ الآخر .فقال: اللّه أكبر فزت وربّ الكعبة ،ثُمَّ استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين ،فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء ،قد عقد لهم عقداً وجواراً .فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصيّة ورِعْلاً وذكواناً فأجابوه إلى ذلك ،فخرجوا حتّى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم ،فلمّا رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم إلاَّ كعب بن زيد فإنَّهم تركوه وبه رمق ،فَارْتُثَّ بين القتلى ،فعاش حتّى قُتل يوم الخندق ،وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجلٌ من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف ،فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلاَّ الطير يحوم حول العسكر ،فقالوا: واللّه إنَّ لهذا الطير لشأناً .فأقبلا لينظرا إليه ،فإذا القوم في دمائهم ،وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة ،فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى ؟قال: أرى أن نلحق برسول اللّه فنخبره الخبر ،فقال الأنصاري: لكنّي ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ،ثُمَّ قاتل القوم حتّى قُتل ،وأخذوا عمرو بن أميّة أسيراً ،فلمّا أخبرهم أنَّه من ضَمَر ،أطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته ،وأعتقه عن رقبةٍ زعم أنَّها كانت على أبيه ،فقدم عمرو بن أميّة على رسول اللّه ( ص ) وأخبره الخبر ،فقال رسول اللّه ( ص ): هذا عمل أبي براء ،وقد كنت لهذا كارهاً متخوفاً ،فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول اللّه ( ص ) بسببه ...
قال: وأنزل اللّه تعالى: [ ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقُون] الآية .
ويستمر القرآنفي هذه السورةفي أجواء المعركة التي يخوضها المسلمون ضدَّ الكفر والباطل ،ليُعالج بعض الحالات النفسية التي يعيشها النَّاس إزاء الشهداء الذين يُقتلون في سبيل اللّه ،فهم يعيشون جوّ المأساة والحسرة والألم ،فقد كان هؤلاء المجاهدون بينهم في حياتهم هذه ،تتفجّر الحياة في وجوههم وعيونهم ونبضات قلوبهم ...وفجأة تموت الحياة ،فيخمد الإشراق في العيون ،وتذبل الشفاه ،وتهدأ الحركة في القلوب ،ويتحوّل الإنسان إلى شيء مجرّد شيء يدفن ويتحلّل ،كما يُدفن كلّ شيء ويتحلّل ...وهكذا تعود الصورة السلبيّة للمصير لتتفاعل في النفس يأساً وخذلاناً يوحي للإنسان بالصورة القاتمة لما يخلّفه الجهاد في سبيل اللّه من آلام وأحزان ،ما يدفع إلى التقاعس عنه أو الثورة عليه .
ولكن هذه الصورة ليست من فعل الإيمان باللّه واليوم الآخر ،بل هي من فعل الكافرين الذين يقولون كما حدّثنا اللّه في كتابه: [ إن هي إلاَّ حياتنا الدُّنيا وما نحن بمبعوثين] ( الأنعام:29 ) فهم الذين يعيشون العقدة من الموت ومن كلِّ ما يقرّبهم إليه أو يربطهم به ،لأنَّه يمثِّل الجدار الذي تتحطم عنده الحياة ،ولا شيء وراء الجدار غير الظلام الأبديّ الذي لا يوحي بأيّة إشراقة من نور ولو من بعيد ...
إنَّها الماديّة التي تخنق في الإنسان الشعور الحيّ بامتداد الحياة الأبدية في حياته حتّى ما بعد الموت ،وبذلك يفقد الإنسان حيويّة الاندفاع إلى ساحة الموت من خلال الرغبة الذاتية التي تتعامل فيها الذات مع طبيعة الأشياء ،أمّا الذين يندفعون منهم للقتال من خلال المبادئ الوطنية وغيرها ،فهم لا يزالون يتحرّكون بفعل الرواسب الروحيّة التي تعيش في أعماقهم ،وتحرّك دوافعهم لا شعورياً ،وربَّما يوحون لأنفسهم في بعض الحالات بحياة أخرى هي حياة الذكر الخالد بعد الموت ،أو حياة أمتهم من خلالهم ،ولكنَّها أوهام خادعة على أساس التفكير الماديّ الذي لا يحسّ الإنسان معه بأيّ شيء من هذا القبيل بعد الموت ،فما معنى أن يعمل له ليعيش من خلاله ؟!
نظرة إسلاميّة للشهادة:
إنَّ هذه الصورة هي صورة التفكير المادي في فكر الذين يؤمنون به .أمّا الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر ،فإنَّ الصورة عندهم تختلف كثيراً ،فها هي الحياة تتفجّر من جديد بعد الموت ،فليس الموت إلاَّ سفراً كما هو السفر الذي يمثِّل الانتقال من جوٍّ إلى جوٍّ آخر ،ومن مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى ،وفي هذه الحياة شقاء وسعادة ،وفرح وألم ،وجحيم ونعيم ...ولكن ذلك كلّه يمثِّل نتاج الحياة الأولى في ما عمله الإنسان من خير أو شر [ فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرَّةٍ خيراً يرهُ * ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شراً يره] ( الزلزلة:78 ) .
وتتحرّك الصورة في وعينا الإيماني من خلال القرآن الكريم ،لتقدّم لنا الشهداء الذين جاهدوا في سبيل اللّه بالصورة المشرقة ،التي تملأ الروح بالفرح الكبير الذي يوحي بالشعور العميق بالسعادة الروحيّة ،بدلاً من الصورة الظاهرية القاتمة: [ ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون] فهم عند اللّه أحياء ،تضج الحياة في داخلهم ،وتشرق في عيونهم ،وتتحرّك في مظاهر الحياة لديهم ...وتلك هي الحياة التي لا يشوبها الكدر والألم في ما يعيشه النَّاس في هذه الدُّنيا ،