/ت169
[ فرحين بما آتاهُمُ اللّه من فضله] فهم يعيشون الفرح الروحي ،في ما أتاهم اللّه من فضله ولطفه ورحمته ،وذلك هو الفرح الحقيقي الذي يحسّ الإنسان معه بالسعادة المطلقة التي لا تعكّر صفوها أيّة شائبة ،مما كان يجده الفرحون في الدُّنيا الذين يفرحون لشهوةٍ أو لذّةٍ أو انتصار طارئ في الأجواء التي تمزج ذلك كلّه بالحسرة والألم من جهات أخرى: [ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون] ويمنحهم اللّه البُشرى بأولئك الذين تركوهم من خلفهم في الحياة لما يريهم اللّه من نعمته عليهم ولطفه بهم فيرتاحون لذلك .
ثُمَّ يُعطينا الجوّ الذي يعيشه هؤلاء عند اللّه ،فهم يعيشون الأمن من الخوف ،لأنَّ الخوف لا يكون إلاَّ من خلال حالةٍ صعبةٍ مترقّبةٍ ،يواجه فيها الإنسان الألم والشقاء ،وليس عند اللّه للمؤمنين إلاَّ الفرح والسعادة ،ويعيشون الأمن من الحزن الذي لا ينطلق إلاَّ من حالةٍ صعبةٍ يحسّ الإنسان بالأسف عليها فيحزن ،وليس في حياة المؤمن في الدار الآخرة أيّ شيء أو أيّة خسارة يأسف عليها .فما معنى الخوف والحزن بعد ذلك ؟!
وقد جاء في تفسير الميزان ملاحظة دقيقة في استيحاء قوله تعالى: [ ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون] قال: «وهذه الجملة ،أعني قوله: [ ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون] ،كلمة عجيبة ،كلّما أمعنت في تدبّرها زاد اتساع معناها على لطف ورقةٍ وسهولة بيان ،وأوّل ما يلوح من معناها أنَّ الخوف والحزن مرفوعان عنهم ،والخوف إنَّما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيءٍ من سعادة الإنسان ،وكذا الحزن إنَّما يكون من جهة أمر واقعٍ يوجب ذلك ،فالبلية أو كلّ محذور إنَّما يخاف منها إذا لم تقع بعدُ ،فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن ،فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله .
فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنَّما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال ،وارتفاع مطلق الحزن إنَّما يتيسر له إذا لم يفقد شيئاً من أنواع سعادته لا ابتداءً ولا بعد الوجدان ،فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الإنسان ،معناه: أن يفيض عليه كلّ ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه ،وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال ،وهذا هو خلود السعادة للإنسان وخلوده فيها .
ومن هنا يتضح أنَّ نفي الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند اللّه ،فهو سبحانه يقول: [ وما عند اللّه خيرٌ] ( آل عمران:198 ) ؛ويقول: [ وما عند اللّه باقٍ] ( النحل:96 ) ،فالآيتان تدلان على أنَّ ما عند اللّه نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء .ويتضح أيضاً أنَّ نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل ،وهو العطية ،لكن تقدّم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى: [ مع الذين أنعم اللّه عليهم] ( النساء:69 ) أنَّ النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية ،وعلى ذلك فالمعنى: أنَّ اللّه يتولى أمرهم ويخصّهم بعطيّةٍ منه » .