وقد بين سبحانه ان اهل الكتاب فيما يصنعون قد خالفوا ما أخذ عليهم من مواثيق ، فقال تعالى:{ وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} .
الميثاق هو العهد الموثق المؤكد ، وقد اخذ الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب العهد المؤكد الذي لا يقبل تأويلا ولا احتمالا ان يبثوا علم الكتاب ويعلنوه ، ولا يقصروا العلم به على طائفة من الناس خاصة ، والضمير في{ لتبيننه} يعود إلى الميثاق ، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله تعالى هو تعاليمه وشرعه ونوره ، وعلى ذلك يكون ثمة احتمالان في عود الضمير ، احدهما ان يعود إلى الكتاب ، والثاني ان يعود إلى الميثاق نفسه ، والأظهر انه يعود إلى الكتاب ، والالتفات من الغائب إلى الخطاب ؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم ، ثم فسر الميثاق بالخطاب ، لتأكيد اخذ الميثاق بإعلان انهم ما كانوا غائبين عند أخذه ، بل كانوا حاضرين مخاطبين ، فالعهد قد اخذ عليهم بألسنتهم ، وقوله تعالى:{ ولا تكتمونه} معطوف على قوله تعالى:{ لتبيننه للناس} وهنا يسأل سائل:لماذا أكد قوله تعالى:{ لتبيننه للناس} بعدة توكيدات ، بالقسم وبلامه ، وبنون التوكيد الثقيلة ، ولم يؤكد( ولا تكتمونه ) ؟ وذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد ، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان ، ولو ان أدوات التوكيد لحقت"ولا تكتمونه"لوهم الأسلوب ان المنفي هو الكتمان المؤكد المبالغ ، اما غيره فلا ينفى ، فلو قيل:"ولا تكتمنه"لأوهم الأسلوب ان المراد النهي عن المبالغة في الكتمان ، فغير المبالغة في موضع الإباحة ، وذلك غير معقول ، ومع هذا العهد الموثق لم يبينوا ؛ ولذلك قال سبحانه:{ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا} .
النبذ الطرح ، والتعبير بوراء ظهورهم كناية عن انهم لن يعودوا على ما نبذوه ، والكلام تصوير لعملهم في عدم الوفاء بعهد الله الذي أخذه عليهم ، إذ إنهم أهملوه ، ولم يفكروا في العودة ، وأهملوه إهمال استخفاف واستهانة ، كما ينبذ الشيء الحقير .
والضمير في"نبذوه"على هذا يعود إلى الميثاق ، باعتبار انه هو موضع الحديث ابتداء ، ويصح ان يعود إلى الكتاب ؛ لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام والكتاب وعاؤها ، فنبذ الكتاب نبذ للعهد ، فهم لم يكتفوا بالامتناع عن البيان لغيرهم ، بل أضافوا إليه إهمال الكتاب إهمالا مطلقا .
وإن هذا النبذ للكتاب وتعاليمه ، وللميثاق المؤكد وإعلانه- سببه الهوى الدنيوي ، وحب السلطان والغلب ، والاستطالة على الناس بما عندهم ، والإدلال عليهم بالعلم من غير ان يعملوا به ، ولذلك قال سبحانه:{ واشتروا به ثمنا قليلا} أي تركوا كتاب الله تعالى والعمل به وبشرائعه ، وإعلانه ، في نظير ثمن تافه قليل ، وكل ثمن للإعراض عن كتاب الله تعالى والعمل به هو قليل مهما يكبر في نظر التاركين ، ولذا قال سبحانه:{ فبئس ما يشترون} أي انه مذموم قبيح ما يطلبون من أعراض الدنيا في نظير إهمال الشريعة والعهد الموثق .
وإن هذا الكلام يدل على وجوب إعلان الحقائق الدينية والدعوة إليها ، ومجابهو مخالفيها بإثم المخالفة ، ومن أحسن ما قرأت في ذلك ما قاله الزمخشري في التعليق على هذا( كفى به دليلا على انه مأخوذ على العلماء ان يبينوا الحق للناس ، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد ، من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، او لجر منفعة وحطام دنيا ، او لتقية ، او لبخل بالعلم وغيره من ان ينسب إلى غيرهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار"{[644]} .