{ ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا} هذا وصف آخر لليهود في ماضيهم ، وفي حاضرهم ، فهم يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا ، يفرحون بما أوتوا ،تلك طبيعة الضال دائما ،فالضال يفرح بكل ما يعمله ، ويزين له سوء عمله فيراه حسنا ، ويحب ان يحمد بما لم يفعل ، فيدعي لنفسه من المحاسن ما شاء ، وينكر محاسن غيره .
والنهي موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نهى مؤكد عن حسبان الخير فيهم فالتأكيد في قوله تعالى:{ لا تحسبن الذين يفرحون} هو تأكيد للنهي ، وليس بتوكيد للظن ، فليس النهي منصبا على الظن المؤكد ، وغيره لا يكون منهيا عنه ، بل التوكيد هو لأصل النهي ، أي ينهى الله سبحانه وتعالى نبيه نهيا مؤكدا عن ان يظن فيهم خيرا ، او يصيبهم خير ، و"تحسب"لها مفعولان أصلهما مبتدأ وخبر ، والمفعول الأول هو ( الذين يفرحون بما أتوا ) إلى آخره ، والمفعول الثاني محذوف دل عليه ما بعده ، وتقدير الكلام هكذا:ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين او مهتدين ، او صالحين ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، وهو انهم يزينون أعمالهم ، ويرغبون في المدح الكاذب ، فإن ذلك هو الضلال البعيد ، وليترتب السامع عليه ما شاء من عدم الهداية وعدم التوفيق ، والبعد عن الخير والنفع ، فكل ذلك وغيره يتضمنه الكلام المحذوف .
وقد صرح سبحانه بهلاكهم ، فقال سبحانه:{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} أي إذا كانوا بهذا الوصف الذي وصفوا به ، وهو الضلال المبين فلا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب ، والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم بقوله تعالى:{ بمفازة} الإشارة إلى ان أقصى ما يكون لهم من فور ان ينجوا من العذاب الأليم أي المؤلم ، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا ، ولذا أكد النهي بالخبر ، فقال:{ ولهم عذاب أليم} أي عذاب مؤلم أشد الإيلام ، او بكل ما يتصور العقل من إيلام ، ولذلك جاءت كلمة أليم نكرة ، فذكر سبحانه عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب ، فنفى اولا انهم بمنجاة منه واخبر ثانيا بأنهم واقعون فيه .
وهنا بيان لطرق الشيطان إلى النفس . إنه يجعل الشخص يحمد كل ما يأتيه أي يصدر عنه ، ويجعل نفسه هي مقياس الخير والشر ، ويحبب إليه الثناء بغير الحق ، وذلك هو الغرور ، وهو الضلال ، وهو الضعف النفسي ، والفرح بما لم يفعل ، وإن الثناء الكاذب ضار بمن يكون موضع الثناء ، وضار بالمجتمع ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"{[645]} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما انا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله"{[646]} . اللهم اكفنا شر النفاق ، وامنعنا من الغرور ، وثبت قلوبنا وألسنتنا وأقلامنا على قول الحق ، إنك سميع الدعاء .