ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة ، وهى أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ويفرحون بما أتوا ، وبين سوء عاقبتهم بسبب تلك الأخلاق القبيحة فقال:{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
والخطاب فى قوله{ لاَ تَحْسَبَنَّ} موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له الخطاب .
والنهى موجه إلى حسبان أن يكون فى هؤلاء الأشرار خير .
أى أن الله تعالى ، ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم ، نهيا مؤكدا عن أن يظن خيرا فى هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
و "المفازة "مصدر ميمى بمعنى الفوز . وقيل هى اسم مكان أى محل فوز ونجاة .
والمعنى:لا تظن يا محمد أن هؤلاء الأشرار{ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} أى يفرحون بما فعلوا من بيعهم الدين بالدنيا واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير ، والذين{ يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أي يحبون أن يمدحهم الناس على ما لم يفعلوه من الوفاء بالعهود ، ومن إظهار الحق وعدم كتمانه ، فإنهم فعلوا الشرور والآثام . ثم لم يحاولوا أن يستروا ما اقترفوه من آثام ، بل يطلبون من الناس أن يمدحوهم على ما ارتكبوه من منكرات ، فهم ممن قال الله فيهم{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} لا تحسبن هؤلاء الأشرار{ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب} أى بمنجاة منه ، بل لهم عذاب مؤلم أشد الإيلام بسبب ما اجترحوه من سيئات .
وقوله{ الذين يَفْرَحُونَ} هو المفعول الأول لتحسب ، والمفعول الثانى محذوف والتقدير:لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين . أو مهتدين ، أو صالحين .
وحذف هذا المفعول الثانى لدلالة ما بعده عليه وهو قوله{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} ولتذهب النفس كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذى وصفهم به - سبحانه - ، وهو أنهم يفعلون القبيح ويحبون أن يحمدهم الناس عليه .
وقوله{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب} بيان لسوء عاقبتهم بسبب أفعالهم السيئة وهو تأكيد لقوله{ لاَ تَحْسَبَنَّ} .
قال الزجاج:جرت عادة العرب أنهم إذا طالت القصة أو الكلام أعادوا لفظ حسب وما أشبهه ، للإعلام بأن الذى جرى متصل بالكلام الأول والأول متصل به . فتقول . لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا . فيفيد "لا تظنن "توكيدا وتوضيحا .
والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم ، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا ، ولذا أكد - سبحانه - عدم نجاتهم بقوله{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فذكر - سبحانه - عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب ، فنفى أولا أنهم بمنجاة منه ، وأخبر ثانيا أنهم واقعون فيه .
هذا ، وقد ذكر كثير من العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شان أحبار اليهود فقد روى الشيخان والترمذى والنسائي ، وغيرهم عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف أن مروان قال لبوابه رافع:اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذ بن جميعا .
فقال ابن عباس:مالكم وهذه ، وإنما نزلت هذه فى أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس:{ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلى قوله{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال ابن عباس:"سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه ".
وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين ، فقد روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو ، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبو أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزت ،{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ} .
قال العلماء:ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة فى جميع ما ذكر . وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حدثتنا عن جملة من رذائل أهل الكتاب ، فقد حكت قولهم{ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} وحكت قولهم{ أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} ووصفتهم بكتمان الحق ونبذه وراء ظهورهم ، كما وصفتهم بأنهم يفرحون بما أتوا وييحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وردت على أكاذيبهم بما يدحضها وأنذرتهم بسوء مصيرهم ، وساقت للمؤمنين من ألوان التسلية ما يخفف عنهم مصابهم ، ويجعلهم يسيرون فى هذه الحياة بعزم ثابت ، وهمة عالية ، ونفس مطمئنة .
ثم ختم - سبحانه - سورة آل عمران بالحديث عن مظاهر قدرته ، وأدلة وحدانيته ، وبشر أصحاب العقول السليمة - الذين يعتبرون ويتعظون ويتفكرون ويكثرون من ذكره - برضوانه وجنته ، وأمر عباده بألا يغتروا بما عليه الكافرون من سلطان وجاه فإنه - سبحانه - قد جعل العاقبة للمتقين ، كما أمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة ومداومة خشيته فقال - تعالى -:{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات . . .} .