{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا( 160 ) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما( 161 ) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما( 162 )} .
في قلوبهم قسوة ، وفي نفوسهم جفوة ، وعقولهم غلف لا تنفتح للحق ، ولا تذعن له ، ظهرت آياته وقامت بيناته ، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها وقالوا أرنا الله جهرة ، ورأوا الجبل يعلو عليهم فقبلوا ميثاق الإيمان ، ثم نقضوه وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم وانطماسها ، وغفلتها عن الحق ، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب ، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله ، وافتخارهم لقتله وما قتلوه ، فهذه مظالم تتلوها مظالم ، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق ، وتهذيبها لتذعن له ، والنفس الشرهة الشرسة لا يهذبها إلا الحرمان أبدا ، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى ، ولذا قال سبحانه:
{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} الظلم هنا خاص بالكفر الذي ذكرته الآيات سابقا كفروا بمواثيق الله ، ولم يذعنوا للحق ، إذعانا ظاهرا إلا بعد تهديد غليظ ، ثم نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وقتلوا الأنبياء وكذبوا على الأبرياء .
فالظلم إذن هو هذا الكفر الذي أوغلوا فيه إيغالا . ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين ، فالصد عن سبيل الله ظلم ، وأخذهم الربا ظلم ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم ، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوها فيها ظلم وذنب ، ولذلك صح أن تذكر كل واحد منها منفردة ، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم . ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم ، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم ، وإن الشرك لظلم عظيم .
وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله تعالى:
{ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} هذا هو حكم الله تعالى الذي قرره تهذيبا وتأديبا لهم ، وفطما لنفوسهم عن الشهوات ولقلوبهم التي استغرقتها المادة ، والنفوس إذا فطمت تتهذب ، وقد تذهب قسوتها . حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم ، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى ، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى ، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل ، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكي تذهب عن قلوبهم بعض القسوة ، وبعض الأنانية التي استولت عليها ، والتنكير في قوله تعالى:"طيبات"فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات بل بعض منها وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى:{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون( 146 )}( الأنعام ) .
وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء ، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة ، وحيث ضعفت الهمة كانت محبة المادة ، والكسب الرخيص وطلب من غير الله ، وقد كانوا كذلك ، وقد كانوا لا همة لهم إلا في الكسب الرخيص ولا همة لهم في دفع اعتداء ، فقد كانوا يقولون لموسى:{ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون( 24 )}( المائدة ) ، وهمتهم الكبرى في الإيذاء لخمول قلوبهم بقدر خمول أجسامهم .
وكان في فطمهم عن الشحوم ، وما يزيد البدن ترهلا ، تهذيبا لنفوسهم وتقوية لأبدانهم وفتح باب الهمة العليا لهم .
ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق ، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى ، ولذا قال سبحانه:{ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين .
وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال:{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}