{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}
كان الظلم الأول موضعه القلب والاعتقاد ، وما ينبعث من أفعال شاذة فيها اعتداء على رسل الله تعالى وأنبيائه ، فالاعتداء فيها كان على جنب الله تعالى والفساد كان في القلوب ، وفي الأعمال التي تتعلق بها . أما الظلم هنا فهو واقع على العباد .
ذلك أن ضعف همتهم في الكسب ، وعدم الاتجاه إلى العمل المثمر المنتج جعلهم يتجهون إلى الكسب الفاسد غير المنتج وذلك بالربا ، وأكل مال الناس بالباطل فأما الربا وهو الزيادة في نظير الزيادة في الأجل فهو كسب الخبيث وغير منطقي لأنه كسب بالنقد ، والنقد لا يلد النقد كما قال أرسطو ، وهو كسب بالانتظار فالزمن هو العامل فيه ، والكسب بالانتظار عمل الكسالى الجبناء ، لأنه يجيئهم من غير عمل ومن غير تعرض للخسارة وهو في الغالب نوع من البطالة ، ويؤدي إلى القمار والمراهنات ولذلك تقترن هذه الآفات الاجتماعية بالتعامل بالربا ، وتكون في أكثر أحوالها ممن يتعاملون بها ، حيث لا مخاطرة كالتي تكون في التجارة أو الزراعة ، ويندر أن تجد يهوديا في أي بلد من البلاد يشتغل بالزراعة ، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لا تحتاج إلى همة ، ولا تحتاج إلى شجاعة .
وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذي فيه أخذ وعطاء ونفع وانتفاع ، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار والرشوة كيفما كانت تسميتها وكيفما كانت صفتها والمخادعات والاحتيال والنصب الماهر المستور وغير ذلك من التعامل الذي لا شرف فيه .
وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله:
{ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها ، بل لا بد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة ، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب ، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام ، ويرتعون كما ترتع ، فذلك إلى أمد قصير .
إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا ، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين . . يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون ، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم ، ومطلبهم فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما ووراءها عذاب أليم ، فليذكروا ذلك وإن ربك لبالمرصاد .
وليسوا جميعا على هذا النحو ، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم ، فكل طائفة فيهم الخير والشر ، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون وإن كانوا قليلا ، ولذا قال سبحانه:
{ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك} .