{ إلا الذين يَصِلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق}
/م88
الاستثناء هنا منفصل بمعنى "لكن"، وهو من الأمر بالأخذ بالنواصي ، والقتل حيثما وجدوا . والمعنى:لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق ، لا يصح النكث فيه ، ولا الخروج على أحكامه ، أو التمرد على مقتضاه ، فهؤلاء يعاملون كالدولة التي ينتمون ليها ، والأقوام الذين يصلون أمورهم بهم ، ولا يصح أن يقتلوا أو يؤسروا ؛ لأن قتلهم أو أسرهم نقض للعهد الذي وثق وأكد ، والله تعالى يقول:{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا( 34 )}( الإسراء ) ، ويقول:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون( 91 )}( النحل ) .
وإن قوله تعالى:{ يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} ، يدخل في مضمونه طائفتان:
أولهما:طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين ، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق ، فإن أعلنوا الإسلام ، لا يستراب في أمرهم .
والثانية:من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد ، فإن لهم من يكونون رعية لمعاهديكم ، وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام .
وهناك صنف لا ينتمي لقوم ذوي عهد ، ولكنه لا يقاتل قومه لعذر عنده ، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام ، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
{ أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لا يعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين ، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين ، وهو في حال حرب ، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام ، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج ، فلا يستطيعون قتال أقوامهم ، خشية على ذرياتهم أو ذوي أرحامهم ، أو أموالهم ، ويريدون أن يتذرعوا بالامتناع عن قتال قومهم فإنه يقبل منهم الاعتزال . ومعنى{ حصرت صدورهم} ضاقت . وقد قال الراغب:( الحصر التضييق . قال الله عز وجل:{ فخذوهم واحصروهم} أي ضيقوا عليهم ، وقال تعالى:{ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا( 8 )}( الإسراء )"وقوله تعالى:{ أو جاءوكم حصرت صدورهم} أي ضاقت ) .
ويظهر أن مادة ( حصر ) تكون من باب نصر ومن باب فرح ، وإذا كانت من باب نصر تكون دالة على التضييق على الغير تضييقا حسيا ، وإن كانت من باب فرح تكون لازمة ودالة على ضيق النفس ، والمعنى على هذا أن هؤلاء ضاقت نفوسهم وصاروا في حرج لا يستطيعون قتال المسلمين ، ولا يستطيعون قتال أقوامهم فهؤلاء مسالمون ، لأن الله كفى المؤمنين أمرهم ، ولأنهم لا يعدون منافقين ، ولقد حرض الله سبحانه المؤمنين على مسالمتهم رغبة في السلام ، فقال سبحانه:
{ ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم} أي أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم ، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم ، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم ، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين:بتقوية جمعكم ، وإضعاف شأن عدوكم ، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم ، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال ، لكان ذلك ، وليس في مصلحتكم ، فاختاروا ما أمركم الله به ، وهو مسألة أولئك الذين يسالمونكم ، وقد خرجوا من بين أقوامهم .
ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى:
{ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} أي فاقبلوا من هؤلاء المسالمة ، إن اعتزلوا قتالكم ولم يكونوا مع أعدائكم عليكم ، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم ، وألقوا إليكم السلام غير معاندين ، ولا مخالفين ، فاقبلوا ذلك منهم ولا تحاربوهم لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم ، ولا يعتدون ، والله تعالى يقول:{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( 190 )}( البقرة ) ، وما داموا لا يقاتلون لا يحل قتالهم ، وإلا كنا معتدين ، والقتال في الإسلام شرع لدفع الاعتداء ، فإذا كانوا كذلك فما جعل الله لكم في شرعه وأحكامه سبيلا لقتالهم .
وفي النص الكريم إشارتان لفظيتان:أولهما- قوله سبحانه:{ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} ، إذ التعبير ب "عليهم"يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم ، وما جعل الله لكم حق الاعتداء ، فالمعنى:ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للإعتداء ب "عليهم". الثانية- التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلا معنى التسليم ، لا مجرد الأمن والسلام ، لأن السلم يفيد معنى التسليم ، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم .
وهناك صنف آخر غير هؤلاء المسالمين ، وهم قوم يخادعون ، لا يكفون عن القتال ، وقد قال سبحانه فيهم:{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} .