{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير( 17 ) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير( 18 )} .
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة ، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها ، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية ثم تحللهم من أحكام الباقي ، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به بل أهملوا لب الدين وحقيقة التوحيد فيه ، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم ، حتى تركوا الدين من حياتهم ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية ويضطهدون به أولياءها ، وأنصارها وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم به ، يبين كثيرا مما أخفوا وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه ، والتي هي لب اليهودية الأولى ، ونصرانية المسيح عليه السلام ، وفي هذه الآيات الملتوية يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى:{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي ، وفي عصور الإسلام الأولى كان النسطوريون منهم يقولون:إن المسيح ليس ابن الله تعالى في الألوهية ولكنها بنوة النعمة وقد ذهبت هذه الفرقة في عبر التاريخ أو تكاد فلا تكاد تسمع ذلك الصوت الآن إلا عند بعض الموحدين الذين ظهروا في طائفة البروتستانت ، ولكنهم عدد نادر ، لا يعترف بهم على أنهم نصارى .
وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله ، وفيه عنصر إلهي فقد قالوا:إن الألوهية قد حلت فيه ، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه ، وقد قال في ذلك البيضاوي:"هم الذين قالوا بالاتحاد منهم ، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا لا إله إلا واحد ، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم "وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله .
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية ، وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . . .( 73 )} متلاقيا مع هذا النص الكريم ، فهنا صرح بلازم قولهم وهنالك صريح بذات قولهم .
والحقيقة أن النصارى اليوم ، وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون ، يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة وأنها شيء واحد وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو المسيح ، والله هو روح القدس ، فقد قال الدكتور "بوست"في تاريخ الكتاب المقدس:"طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر:الله الآب ، والله الابن والله روح القدس ، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء ، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد".
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه ، فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب كما أن الله هو روح القدس .
وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة لأن المسيح ولد ، ورئي يتحدث مع الناس ، وأكل وشرب وقتل وصلب في زعمهم فكيف يكون هو الله تعالى ؟ .
والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين ، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين ، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة ، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه "تاريخ البطارقة"قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه:
"كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان ، فجمع البطارقة والأساقفة ، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة ، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . . فمنهم من كان يقول:إن المسيح وأمه إلهان من دون الله ، وهم البربرانية ويسمون "المريميين"ومنهم من كان يقول:إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها ، وهي مقالة إليان وأشياعه ، ومنهم من كان يقول:إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله ويقولون:إن الله جوهر قديم واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يسمونه الكلمة وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية ، وأشياعه ومنهم من كان يقول:إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه ، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين وأنكروا بطرس ، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا".
وذكر فكرة أرتوس ، وكانت شائعة وهي إنكار ألوهية المسيح والإيمان بالوحدانية واختار قسطنطين من( 2048 ) الثمانية والأربعين والألفين عدد( 318 ) الذين قالوا بألوهية المسيح ، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين .
وإن ذلك القول بلا ريب باطل ، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الذي يحيي ويميت وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس .
{ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ادعائهم بإثبات القدرة لله تعالى فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها ، فإذا كان المسيح لا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء .
والمعنى:قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح:من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه ، وفي الجملة السامية إشارات بيانية:
منها في قوله:{ فمن يملك من الله شيئا} لأن ( يملك ) معناه يتضمن معنى يمنع ، أي يمنع من قدرة الله وأمره شيئا ، وتنكير كلمة "شيئا"للتصغير ، أي قدرا ولو كان ضئيلا .
ومنها أن التعبير ب "يملك"يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك ، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره .
ومنها أن ذكر الإهلاك في هذا المقام فيه دلالة مادية في زعمهم على بطلان ما يدعون لأنهم زعموا أن عيسى أهلكه الرومان بتحريض وشهادة الزور من اليهود لعنهم الله ، فكيف يكون إلها وهو لا يملك حماية نفسه مع أن وصف الإله يوجب أن تكون قدرته على الإهلاك والإبقاء ثابتة .
ومنها أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه على أنه متولد منها فكيف يكون من الفاني الإله الباقي ، وهو ابن الله في زعمهم ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب ، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى:{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء} .
هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة ، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء ، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب فيكون ابنا لله تعالى الله عند ذلك . والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة ، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير ، ويسبح فيه ، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء ، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى ، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى ، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية ، وليست تامة أو مطلقة بل هي مقيدة .
وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء ولذلك قال تعالى:{ يخلق ما يشاء} وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لا حد لها ، ومن ملكية مطلقة لا قيد يقيدها ، فهو يخلق ما يشاء ويريد ، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا ولهذا إناثا ، ويجعل من يشاء عقيما ، ولا قيد يقيد إرادته ، في طريقة الخلق والتكوين فيخلق الناس من أب وأم ويخلق آدم من غير أب ولا أم ، ويخلق عيسى من أم ، ومن غير أب وهكذا .
{ والله على كل شيء قدير} هو قادر على كل شيء في هذا الوجود ، يفعل به ما شاء ، يفنيه ويبقيه على ما يشاء ، وقد وجد كل شيء بالقدرة والإرادة لا بالعلية والسببية ، فلا يقال:إن الأب سبب للإبن ، فإن وجد له من غير أب فالله سبحانه أبوه ، لا يقال ذلك لأن الله تعالى لا يتقيد بالأسباب فهو خالق الأسباب وخالق المسببات وخالق نواميس الكون ، وكل ما فيه وهو القاهر فوق عباده فهو خالق عيسى وليس أباه وإن النصارى واليهود مع أنهم يخطئون في جنب الله ، ولا ينزهونه كمال التنزيه ولا يطيعونه يزعمون أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ولذا قال سبحانه:{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} .
اليهود يعلنون للناس أنهم شعب الله المختار ، والنصارى يعلنون أنهم هداة هذا الوجود وأنه لا سلامة إلا في دينهم على الوضع الذي وضعوه ، وعلى الزعم الذي زعموه وبذلك يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ، وعلى هذا يكون المراد بالبنوة بنوة مزية الاتصال بالله أكثر من اتصال غيرهم به ، وأن الاتصال اتصال إيمان به وإدراك له ، وأنهم اختصوا بنعمة المحبة فالبنوة بنوة الاتصال والمحبة ويكون عطف أحباء من قبيل عطف التفسير المشير إلى معنى البنوة .
وهناك احتمال آخر وهو أن تكون البنوة هي البنوة التي زعمها اليهود لعزير إذ قالوا:عزير ابن الله وهم أتباعه وشيعته وزعم النصارى أن المسيح ابن الله وهم أتباعه فهم أبناء الله بهذا الإتباع وقد قال الزمخشري في وضيح هذا الاحتمال:"أبناء الله أي أشياع ابنى الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبي خبيب ، وهو عبد الله بن الزبير ، وكما يقول رهط مسيلمة:نحن أنبياء الله ويقول أقرباء الملك وذوو حشمه نحن الملوك ، ولذلك قال مؤمن آل فرعون:{. . .لكم الملك اليوم . . . ( 29 )}( غافر ) .
وفي الحق أن كلا من اليهود والنصارى ادعوا أن لهم صلة خاصة بالله ، وأنهم دعاة الحق وأنهم وحدهم أحباب الله وأهل الاتصال به ولهذا رجح الأول .
{ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} الفاء هنا فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر والمعنى إذا كنتم كما زعمتم أحباء الله تعالى وأبناءه فلم يعذبكم إن ارتكبتم ذنوبا تؤثمكم ؟ فأنتم كسائر الناس تذنبون ولو كنتم متصلين بالله أكثر من غيركم ما أذنبتم ، ولو أذنبتم ما عذبتم ، وفي كتبكم التي بأيديكم أنكم تعذبون على ما تقترفون من آثام . وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم ، إذ قال الله تعالى عنهم:{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . . .( 80 )}( البقرة ) وإن النصارى يقرون بأنه سيدين الناس يوم القيامة ، ويجازى المحسن على ما أحسن والمسيء على ما أساء .
وقد رد الله سبحانه أصل الادعاء بقوله تعالى:{ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي أن صلة الله تعالى بكم هي صلته بخلقه ، وأنتم بعض منهم ، فلا فضل لأحد على أحدإلا بالتقوى ، فهو يغفر لمن يشاء ، واقتضت حكمته الغفران له لتوبته ولصغر ما ارتكب ووازن حسناته بسيئاته وأن الحسنات يذهبن السيئات ويعذب من يشاء بمقتضى حكمته لأن الخطيئة أحاطت به ، ولم يقلع عما ارتكب وأساء ، والله عليم حكيم وغفور رحيم .
{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير} هذه الجملة من تتمة الرد عليهم ويحتمل أن تكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر أن يقوله ، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى تأكيدا لحكمته تعالى وكمال سلطانه وقد تأكد الرد بقوله تعالى:{ وإليه المصير} أي أنه سبحانه وحده هو الذي تصير إليه أمورهم يوم القيامة وهو الذي يعلن حينئذ محبته لمن استحق محبته بالطاعة والتقوى ويكون مآله إلى الجنة والنعيم المقيم ، ولن تكون للذين غيروا وبدلوا في دينه وأشركوا به ، تلك المحبة التي ادعوها ، ولا ذلك النعيم الذي وعهد به وسيكون العذاب لمن عصى أمر ربه وغالى في تقديس عباد الله تعالى وأشرك به ، والله هو الذي يتولى الفريقين بعدله وحكمته .
اللهم اجعلنا من أهل محبتك ورضوانك وإذا لم نستحق فاجعلنا من أهل غفرانك .