( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 150 ) .
الكلام الكريم لا يزال فيما حرموه على أنفسهم مما أحله لهم وآتاهم من رزق ، وقد طالبهم الله تعالى بما عندهم من علم أى علم بأن الله تعالى حرم هذا ، فلم يكن علم أوتوه ولكن أوهام سيطرت عليهم ، والىن يطالبهم ليشهدوا أن الله حرم هذا ولذا قال تعالى:
( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا ) .
( هلم ) اسم فعل أمر بمعنى ادعوا او هاتوا شهداءكم أي الذين تعدونهم قدوتكم والفضلاء فيكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا .
وإن هذا الكلام سائر مع سياق القول في تحريم ما أحل الله من رزق فجعلوا منه حراما وحلالا ، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أنهم لا يستيقنون بشيء ان يظنون الا ظنا ، وأنهم يخرصون أو يكذبون ولذلك دعاهم الى ان يحضروا أماثلهم ليشهدوا أن الله تعالى حرم هذا وإنهم حينئذ يرفضون ، وذلك لأن أماثل العرب لا يشهدون كاذبين وان كانوا كافرين ، وإنا لنذكر أن ابا سفيان زعيم الشرك قبل الفتح المبارك لمكة عندما سأله هرقل أجاب إجابة صريحة صادقة وهو متململ وقال ، لولا أني أخشى أن تحفظ عنس كذبة في العرب لكذبت . فما كان الأماثل منهم يسارعون إلى الكذب أو يرضونه . طلب الله أن يحضروا شهداء ليشهدوا أن الله حرم هذا ، وإنهم لا يشهدون .
ولكن حال تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، واتباعهم أهواءهم وسيطرة الأوهام عليهم قد تغلب عليهم نزعة الصدق ، ولذا كان أمر الله تعالى الذي امره بدعوتهم بأنهم إن شهدوا بالباطل وليس بمستحيل على من أشرك فقد تدفعه لجاجة الكفر إلى أن يطمس معالم الحق فيكذب ان شهدوا بغير الحق ، ( فلا تشهد معهم ) أي فلا تصدقهم لان الهوى قد يغلبهم على سجيتهم ومن يشرك لا يؤمن كذبه ، ولو كان من أهل الصدق ولذا قال تعالى:( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) أي فإن غلب عليهم فشهدوا بالباطل كما ذكر فأنكر عليهم شهادتهم ولا تشهد معهم ولا تسايرهم وهذا معنى قوله تعالى:( فلا تشهد معهم ) أي فلا تسايرهم في كذبهم الذي ينبعث من الهوى ولذا قال تعالى من بعد .
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) . نهى الله تعالى نبيه الكريم ونهيه نهى لكل الذين اتبعوه ، ويتبعونه إلى يوم الدين ، نهاه عن أن يتبع أهواءهم لأن الهوى ذاته يضل ولا يهدي ومن جعل إلهه هواه فقد ضل سواء السبيل .
ونص القرآن:( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) والمعنى الذي هو المقصود لا تتبع المشركين المفترين على الله تعالى الذين يحرمون ما يحرمون ويفترون على الله الكذب . فيزعمون أنه الذي حرم ، وعبر عن المشركين بقوله تعالى:( ولا تتبع أهواء الذين ) لأنه لازم لاتباعهم لأن من اتبعهم فإنما يتبع أهواءهم المنحرفة وكيف يتردى مؤمن في اتباع الهوى والهوى مضل ومرد وانى يكون ذلك من نبي كريم ومن أتباعه الكرام .
ولذلك كان النهى عن اتباع هواهم وقد ذكر لهم أوصافا ثلاثة مع أنهم أصحاب هوى وليسوا اصحاب عقل:
الوصف الأول أو الحال الأولى من أحوالهم أنهم كذبوا بآياتنا آي آيات الله تعالى في الكون الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى فكذبوا الآيات الدالة على وحدانيته ومعنى تكذيبهم هذه الآيات أنهم لم يعلموا بمقتضى ما تدل عليه من القدرة القاهرة ، والإرادة المختارة وكذبوا بالآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالآيات القرآنية والأحكام التي نزل بها وحي الله تعالى على نبيه الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم .
والمكذب بالحق المعلوم الذي تبهر آياته البينات لا يصح أن يتبع لأنه ضال مضل . الوصف الثاني أو الحال الثانية:أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ومن ينكر الآخرة ينكر حقيقتين لا ينكرهما مؤمن ولا يقع في هذا الإنكار إلا مادي لا يؤمن بالغيب وهو لب الإيمان .
أولى:هاتين الحقيقتين إنكار البعث ويقولون:إن هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين وهم بذلك يحسبون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم عبثا وأنه تركهم سدى ، ( افحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون 115 ) ( المؤمنون ) .
الثانية أنهم ينكرون الحياة الروحية ولا يؤمنون إلا بالحياة المادية ، ومن كان كذلك لا يتبع .
الوصف الثالث:وهو الحال الثالثة ، وهي نتيجة للأمرين وهي انهم بربهم يعدلون أي يجعلون الأوثان وهي حجارة معادلة للعبادة مع ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم بربوبيته أي انه خلقهم ولم يتركهم بل قام على تطويرهم من حياة الى حياة فهو الحي القيوم القائم على كل شيء الذي يكلؤهم بالليل والنهار سبحانه الواحد القهار .
وتقديم ( بربهم ) على ( يعدلون ) لبيان ضلالهم في مساواتهم الله ربهم بالأوثان وهو تأنيب لهم ، وبيان لضلال عقولهم .