وإن الآيتين الكريميتن تفيدان أولا أنهم في غفلة لاهون لا يشعرون بعاقبة أعمالهم ، وآثامها ، وإنهم عمون غير مدركين . وتفيدان ثانيا أن بأس الله تعالى يأتيهم من حيث لا يحتسبون ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم يلعبون ، وإن ذلك بتدبير الله تعالى ، ولذا قال بعد ذلك:
{ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ( 99 )} .
( الفاء ) هنا عاطفة يترتب ما بعدها على ما قبلها ، لأنهم إذا كانوا لم تجدهم النقمة ولا النعمة ، وبأس الله ياتيهم في مأمنهم ليلا وهم نائمون ، وضحى وهم يعملون عملا لا جدوى فيه فهو لعب أو كاللعب ، فهم لا يأمنون .
ومكر الله تعالى تدبيره المحكم الذي ينزل به العذاب السريع على من يستحقه ، والأمن والطمأنينة لمن يستحقه ، وهو الحكيم ، وقد فسر بعض المفسرين بأنه العذاب ، أو البأس الشديد ، وهو تفسير بالنتيجة ، إنما هو من الله التدبير المحكم . والمكر قسمان:مكر سيئ وهو الذي يكون من الأشرار ، ونتيجته شر ، ومكر طيب وهو رد مكر الأشرار ، ونتيجته طيبة ، ولقد قال في شأن قريش في تدبيرهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه:{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكيرن ( 54 )} ( آل عمران ) أي أنهم كانوا يدبرون لإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويمكرون المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله ، والله تعالى يدبر لنبيه نجاته منهم ، وهجرته من أرضهم من غير إخراج ، حتى يكون الفصل بينه وبينهم .
والاستفهام إنكاري بمعنى النفي والتوبيخ ، فهم لا يؤمنون مكر الله ، ويوبخهم الله – سبحانه وتعالى – لأنهم غ-فلوا عن الحق ، ونسوا تدبير الله تعالى المهلك لهم جزاء بما كسبوا ، وبما كذبوا بآيات الله ؛ لأنهم يأمنون مع ذلك العذاب الشديد ينزل بهم ، وهذه غفلة شديدة ، وعدم اعتبار بما كان لمن قبلهم ؛ ولذا ختم الله – سبحانه وتعالى – الآية بقوله:{ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} .
إن المؤمن يتفطن دائما لمقام قدرته تعالى بجوار قدرته ، وإذا عصى يتوقع عذاب الله تعالى من عصيانه ، ويتخوف ولا يأمن أن تنزل به العقوبة ، وإن المؤمن لفرط حسه بمعصيته ، وإيمانه بالله يخاف دائما عذابه ، ولا يرجوا إهماله وقد عصاه ؛ ولذا كان من المبادئ الصوفية ( تغليب ) الخوف على الرجاء ؛ لأن الخوف من غير إسراف على النفس من ورائه التقوى ، والرجاء من غير أسبابه يفضي إلى الغرور ، ووراء الغرور الاستهانة بأمر الله تعالى ونهيه .
والكافر يعصي ، ويرى عصيانه حسنا ، وينسى قوة الله ، وأنه يعاند ويحارب أمره ونهيه ، ناسيا أنه يعاند القوي القهار الذي هو غالب كل شيء ، وأنه لا إرادة لمخلوق بجوار إرادته – سبحانه وتعالى – وعلى ذلك يأمن عذاب الله وتدبيره ، وغن ذلك هو الخسران المبين ؛ ولذا حكم الله تعالى بأنه:{ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} .
وحكم الله تعالى بخسارتهم ، مؤكدا الخسارة بالقصر ، وأن الخسارة مقصورة عليهم ، وخسارتهم في أنهم خسروا أنفسهم فليسوا في حال عقلية مدركة ، وخسروا أنفسهم بالاستمرار على غيهم ، وخسروا بالعذاب الأليم الذي ينزل والله سبحانه هو الذي يقي المؤمنين شر الغفلة والنسيان وأن عذاب الله ، وجعلهم في فطنة دائمة واعتبار بأمر الله ونهيه ، وهو الهادي إلى سواء السبيل .