وقرأ الجمهور{ فأجمِعوا} بهمزة قطع وكسر الميم أمراً من: أجمع أمره ،إذا جعله متفقاً عليه لا يختلف فيه .
وقرأ أبو عمرو{ فاجمَعوا} بهمزة وصل وبفتح الميم أمراً من جمع ،كقوله فيما مضى{ فجَمَع كيْدَه}[ طه: 60] .أطلق الجمع على التعاضد والتعاون ،تشبيهاً للشيء المختلف بالمتفرّق ،وهو مقابل قوله{ فتنازعوا أمرهم} .
وسموا عملهم كيداً لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب ،فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به .
والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى ،وما أظهره الله على يديه من المعجزة ،وأصبحوا متحيّرين في شأنه ؛فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له ،وهو ما حكاه قوله تعالى: في آية سورة الشعراء ( 38 40 ):{ فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} .
ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيبُ لهم .
ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيّرون لذلك بَهاء الهيبة وحسن السمت وجلال المظهر .فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود ،وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب .وقد فسر به فعل تنمّروا في قول ابن معد يكرب:
قوم إذا لبِسوا الحديد *** تنَمروا حَلَقاً وقَدّاً
وقيل: إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر .وثبت في التاريخ المستند للآثار أنّ كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور .
والصفّ: مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول ،أي صافّين أو مصفوفين ،إذا ترتبوا واحد حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين ،لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظراً ،قال تعالى:{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً}[ الصفّ: 4] .وكان جميع سحرة البلاد المصريّة قد أحضروا بأمر فرعون فكانوا عدداً كثيراً .فالصفّ هنا مراد به الجنس لا الواحدة ،أي ثم ائتوا صفوفاً ،فهو كقوله تعالى:{ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً}[ النبأ: 38] وقال:{ والملك صفاً صفاً}[ الفجر: 22] .
وانتصب{ صَفّاً} على الحال من فاعل{ ائتُوا} والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم ،لأنّ التناجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم{ وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَننِ اسْتَعلَى} .
وجملة{ وقَدْ أفلحَ اليومَ مَنِ استَعْلى} تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع .ف{ استعلى} مبالغة في عَلا ،أي علا صاحبَه وقهره ،فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر .
وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبديّة وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية .