وجملة{ وقد كفروا به من قبل} في موضع الحال ،أي كيف يقولون آمنّا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبلُ في وقت التمكن فهو كقوله تعالى:{ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}[ القلم: 43] .
{ ويقذفون} عطف على{ كفروا} فهي حال ثانية .والتقدير: وكانوا يقذفون بالغيب .واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى:{ ويصنع الفلك}[ هود: 38] .
والقذف: الرمي باليد من بعد .وهو هنا مستعار للقول بدون تروِّ ولا دليل ،أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم: هم شفعاؤنا عند الله .
ولك أن تجعل{ ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} تمثيلاً مثل ما في قوله{ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} ،شبهوا بحال من يقذف شيئاً وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة .
وحُذف مفعول{ يقذفون} لدلالة فعل{ وقد كفروا به من قبل} عليه ،أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافاً .
والغيب: المغيَّب .والباء للملابسة ،والمجرور بها في موضع الحال من ضمير{ يقذفون} ،أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد .
و{ مكان بعيد} هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا ،وهي مكان بعيد عن الآخرة للاستغناء عن استعارته لِما لا يشاهد منه بقوله:{ بالغيب} كما علمت فتعين للحقيقة لأنها الأصل ،وبذلك فليس بين لفظ{ بعيد} المذكور هنا والذي في قوله:{ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} ما يشبه الإِيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة .