ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره:{ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار}[ ص: 64] ،وبه فسر قتادة وابن زيد ،وجريانه بينهم ليزدادوا مقتاً بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة .
وأسلوب الكلام يقتضي متكلماً صادراً منه ،وأسلوبُ المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية .فالتقدير: يقولون ،أي الطاغون بعضهم لبعض: هذا فوج مقتحم معكم ،أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أُقحم فيهم لَيسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا ،وذلك ما دل عليه قوله:{ أنتم قدمتموه لنا}[ ص: 60] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا .وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى:{ كلما دخلت أمة لعنت أختها}[ الأعراف: 38] إلى قوله:{ بما كنتم تكسبون} في سورة[ الأعراف: 39] ،وقوله:{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} في سورة[ البقرة: 166] ،وقوله:{ وأَقْبَلَ بَعْضُهُم على بَعْضضٍ يَتَسَآءَلُونَ} الآيات من سورة{ الصافات: 27] .وأوضحُ من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية{ إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهللِ النَّارِ}[ ص: 64] .
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين .وجملة{ هذا فوجٌ} إلى آخرها مقول القول المحذوف .
والفوج: الجماعة العظيمة من الناس ،وتقدم في قوله:{ ويوم نحشر من كل أمة فوجاً} في سورة[ النمل: 83] .
والاقتحام: الدخول في الناس ،و ( مع ) مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون ،وأن الفوج المقتحم أتباع لهم ،فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك .
وجملة:{ لا مرحباً بهم} معترضة مستأنفة لإِنشاء ذم الفوج .و{ لاَ مَرْحَباً} نفيٌ لكلمةٍ يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد .و{ مرحباً} مصدر بوزن المفعل ،وهو الرُّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب ،أي أتيت رحباً ،أي مكاناً ذا رحب ،فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا: لا مرحباً به ،كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة:
لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح: حبّذا ،فإذا أرادوا ذمّاً قالوا: لا حبّذا .وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة:
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه *** إذا ذكرت ميَّ فلا حبّذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله: السعة المجازية ،وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد ،وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جرياً على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء .
وجملة{ إنهم صَالُوا النَّارِ} خبر ثان عن اسم الإِشارة ،والخبر مستعمل في التضجّر منهم ،أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم:{ مقتحِم معكم لا مرحباً بهم} .