عطف على جملة{ قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين}[ فصلت: 9] الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية ،فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالاً في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات ،فابتدىء ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار ،وحال طلوع الشمس وطلوع القمر ،ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله:{ ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة}[ فصلت: 39] .
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله:{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} إلى قوله:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}[ فصلت: 13 34] إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله:{ أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض}[ فصلت: 9] .
والآيات: الدلائل ،وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده .
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى ،فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية .وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 164 ){ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار}} .
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة ،وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله:{ فقضاهن سبع سموات}[ فصلت: 12] ،فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس ،ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول ،ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله:{ فقضاهن سَبْعَ سموات} توفيراً للمعاني .
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام ،وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام ( 76 ) في قوله:{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي} الآيات ،ثم ظهر هذا الدين في سبأ ،عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل .ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر ،ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا: ( لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر ) اهـ .ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب .وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه ( شَمس ) وبه سموا ( عبدَ شمس ) ،وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة ،قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة:
تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْراً *** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا
وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ .
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر .
وفي « تلخيص التفسير » للكواشي: ( وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة ) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب ،على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر .وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم: صَبَأَ ،وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابىء ،فإذا لم يكن النهي في قوله:{ لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ} نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر ،فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما .
ووقوع قوله:{ واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ} بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي ،ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب ،فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
فكأنه قيل: لا تسجدوا إلا لله ،أي دون الشمس والقمر .
فجملة{ لا تَسْجدوا للشَّمس} إلى قوله:{ تَعْبُدُونَ} معترضة بين جملة{ وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ} ،وبين جملة{ فَإنْ استَكْبَرُوا}[ فصلت: 38] .وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة ،فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب: السجود عند قوله تعالى:{ إن كنتم إيَّاهُ تعبدون} وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود ،وروي عن الشافعي .وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب: هي عند قوله:{ وَهُمْ لا يَسْأمُونَ}[ فصلت: 38] ،وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب .