لما أشارت الآية السابقة إلى إبطال ضلالة الذين زعموا عيسى عليه السلام ابناً لله تعالى ،من قَصره على كونه عبداً لله أنعم الله عليه بالرسالة وأنه عبرة لبني إسرائيل عُقب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضلالة ،وهي ضلالة بعض المشركين في ادعاء بنوة الملائكة لله تعالى المتقدم حكايتها في قوله:{ وجَعَلوا له من عباده جُزءاً}[ الزخرف: 15] الآيات فأشير إلى أن الملائكة عباد لله تعالى جعَل مكانهم العوالم العليا ،وأنه لو شاء لجعلهم من سكان الأرض بدلاً عن الناس ،أي أن كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجباً لهم بالذات وما هو إلا وضعٌ بجعل من الله تعالى كما جعل للأرض سكاناً ،ولو شاء الله لعكس فجعل الملائكة في الأرض بدلاً عن الناس ،فليس تشريف الله إياهم بسكنى العوالم العليا بموجب بُنوتهم لله ولا بمقتضضٍ لهم إلهية ،كما لم يكن تشريف عيسى بنعمة الرسالة ولا تمييزُه بالتكوّن من دون أب مقتضياً له إلهاية وإنما هو بجعل الله وخلقه .
وجُعِل شرط{ لو} فعلاً مستقبلاً للدلالة على أن هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوِّض للملائكة سكنى الأرض .
ومعنى ( مِن ) في قوله:{ منكم} البدلية والعِوَض كالتي في قوله تعالى:{ أرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة}[ التوبة: 38] .
والمجرور متعلق ب ( جعلنا ) ،وقُدّم على مفعول الفعل للاهتمام بمعنى هذه البَدَلية لتتعمق أفهام السامعين في تدبرها .
وجملة{ في الأرض يخلفون} بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله:{ منكم} وحذف مفعول{ يخلفون} لدلالة{ منكم} عليه ،وتقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدل على كون الجملة بياناً لمضمون{ منكم} .وهذا هو الوجه في معنى الآية وعليه درج المحققون .ومحاولة صاحب « الكشاف » حمل{ منكم} على معنى الابتدائية والاتصال لا يلاقي سياق الآيات .