و{ أن أدوا إلي عباد الله} تفسير لما تضمنه وصف{ رَسول} وفعل{ جاءهم} من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول .ومعنى{ أدوا إلي} أرْجعوا إلي وأعطوا قال تعالى:{ وَمِنْهُمْ من إن تأمَنْه بدينار لا يُؤدِه إليك}[ آل عمران: 75] ،يقال: أدَّى الشيء أوصله وأبلغه .وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فِعل سالم غير مضاعف ،جَعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية .
وخطاب الجمع لقوم فرعون .والمرادُ: فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق ،ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لمّا رأى من فرعون صلفاً وتكبراً من الامتثال ،فخطاب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق .
و{ عباد الله} يجوز أن يكون مفعول{ أدوا} مراداً به بنو إسرائيل ،أجري وصفهم{ عباد الله} تذكيراً لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم ،وجاء في سورة الشعراء ( 17 ){ أن أرسل معنا بني إسرائيل} فحصل أنّه وصفهم بالوصفين ،فوصف{ عباد الله} مبطل لحسبان القبط إياهم عَبيداً كما قال:{ وقومُهُما لنا عابدون}[ المؤمنون: 47] وإنما هم عباد الله ،أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية كقول بشار يخاطب نفسه:
أصبحتَ مولى ذي الجلال وبعضُهم *** مولَى العَبيد فلُذْ بفضلك وافخَر
ويجوز أن يكون مفعول فعل{ أدوا} محذوفاً يدل عليه المقام ،أي أدّوا إليَّ الطاعةَ ويكون{ عباد الله} منادى بحذف حرف النداء .قال ابن عطية: الظاهر من شرع موسى أنه بعث إلى دعاء فرعون للإيمان وأن يرسل بني إسرائيل ،فلما أبى فرعون أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل ،قال: ويدل عليه قوله بعد{ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} .
وقوله:{ إني لكم رسول أمين} علة للأمر بتسليم بني إسرائيل إليه ،أي لأني مرسل إليكم بهذا ،وأنا أمين ،أي مؤتمن على أني رسول لكم .وتقديم{ لكم} على{ رسول} للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداءً بأن يعطوه بني إسرائيل لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريعِ لها ،وليس قوله:{ لكم} خطاباً لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالتَه مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى:{ فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملائهم أن يفتنهم}[ يونس: 83] ،وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبرراً لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده .
وعطف على طلب تسليم بني إسرائيل نهياً عن الاستكبار عن إجابة أمر الله أنَفَة من الحطّ من عظمته في أنظار قومهم فقال:{ وأن لا تعلوا على الله} أي لا تَعْلُوا على أمره أو على رسوله فلما كان الاعتلاء على أمر الله وأمر رسوله ترفيعاً لأنفسهم على واجب امتثال ربهم جعلوا في ذلك كأنهم يتعالون على الله .