قوله:{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة} هو الغرض من الخطاب ،فهو كالمقصد بعد المقدّمة ،ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب{ يَا قَوم} لزيادة استحضار أذهانهم .والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ،أي تهيَّأوا للدخول .والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة ،أي الّتي بارك الله فيها ،أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون .
وهي هنا أرض كنعان من برية ( صِين ) إلى مدخل ( حَمَاة وإلى حبرون ) .وهذه الأرض هي أرض فلسطين ،وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ( حماة ) شمالاً وإلى ( غَزّة وحبرون ) جنوباً .وفي وصفها ب{ التي كتب الله} تحريض على الإقدام لدخولهَا .
ومعنى{ كتب الله} قَضَى وقدّر ،وليس ثمّة كتابة ولكنّه تعبير مجازي شائع في اللّغة ،لأنّ الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ،كما قال الحارث بن حلّزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ،وذلك أنّ الله وعد إبراهيم أن يورثها ذرّيته .ووعدُ الله لا يُخلف .
وقوله:{ ولا ترتَدّوا على أدباركم} تحذير ممّا يوجب الانهزام ،لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال .والارتداد افتعال من الردّ ،يقال: ردّه فارتدّ ،والردّ: إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه .والأدبار: جمع دُبُر ،وهو الظهر .والارتداد: الرجوع ،ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ،أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ،كما يقُولون: نكص على عقبيه ،وركبوا ظهورهم ،وارتدّوا على أدبارهم ،وعلى أعقابهم ،فعدّي ب{ على} الدالّة على الاستعلاء ،أي استعلاء طريق السير ،نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه .
والانقلاب: الرجوع ،وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى:{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل}[ آل عمران: 174] .والمراد به هنا مطلق المصير .