وجملة{ ألا يعلم من خلق} استئناف بياني ناشىء عن قوله:{ إنه عليم بذات الصدور} بأن يسأل سائل منهم: كيف يعلم ذات الصدور ،والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه ؟فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور ،فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالاً لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خَلدها ،فالإِتيان ب{ مَن} الموصولة لإِفادة التعليل بالصلة .
فيجوز أن يكون{ مَن خَلَق} مفعول{ يعلم} فيكون{ يعلم} و{ خلَق} رافعين ضميرين عائديْن إلى ما عاد إليه ضمير{ إنه عليم بذات الصدور} ،فيكون{ مَن} الموصولة صادقة على المخلوقين وحُذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه .والتقدير: من خلقهم .
ويجوز أن يكون{ من خلق} فاعل{ يعلم} والمراد الله تعالى ،وحُذف مفعول{ يعلم} لدلالة قوله:{ وأسروا قولَكم أو اجهروا به} .والتقدير: ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير .
والعلم يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دالٌ على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام ،فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة .
وجملة{ وهو اللطيف الخبير} الأحسن أن تجعل عطفاً على جملة{ ألا يعلم من خلق} لتفيد تعليماً للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون ،أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإِسرار من الأحوال .
و{ اللطيف}: العالم خبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة .
و{ الخبير}: العليم الذي لا تعزب عنه الحوادثُ الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضاً بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر ،وتقدم عند قوله تعالى:{ وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} في الأنعام ( 103 ) وعند قوله:{ إن الله لطيف خبير} في سورة لقمان ( 16 ) .