و{ إذا} في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى:{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً}[ التوبة: 92] وقوله:{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به}[ النساء: 83] .
والمقصود من ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حِدة ،وذكر حال المسلمين على حِدة ،أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معاً .
وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله:{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} إلى آخر السورة .
والافتتاح ب{ إن الذين أجرموا} بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإِشعار بأنه خبر مهم .والمراد ب{ الذين أجرموا} المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم .
وهم أبو جهل ،والوليد بن المغيرة ،وعقبة بن أبي معيط ،والعاص بن وائل ،والأسود بن عبد يغوث ،والعاص بن هشام ،والنضْر بن الحارث ،كانوا يضحكون من عمار بن ياسر ،وخباب بن الأرَتّ ،وبلال ،وصهيب ،ويستهزئون بهم .
وعبر بالموصول وهذه الصلة:{ الذين أجرموا} للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام ،وليظهر موقع قوله:{ هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون}[ المطففين: 36] .
والإِجرام: ارتكاب الجُرم وهو الإثم العظيم ،وأعظم بالإِجرام الكُفر ويؤذن تركيب « كانوا يضحكون » بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي ،وصوغ{ يضحكون} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم .
وتعدية فعل{ يضحكون} إلى الباعث على الضحك بحرف{ مِن} هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن ( مِن ) ابتدائية تشبَّه الحالةُ التي تبعث على الضحك بمكان يَصدر عنه الضحك ،ومثله أفعال: سخر منه ،وعجب منه .
ومعنى يضحكون منهم: يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزأوون بالمؤمنين ومعظمهم ضعاف أهل مكة فيضحكون منهم ،والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله:{ وإذا مرّوا بهم يتغامزون} .
واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم تلك الحالة نحو:{ فتبسم ضاحكاً مِن قولها}[ النمل: 19] وإذا كان مجموعَ هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو:{ وكنتم منهم تضحكون}[ المؤمنون: 110] .وقول عبد يغوث الحارث:
وتَضحك منّي شَيْخَةٌ عبشميّة *** كأنْ لَم تَرى قبلي أسيراً يمانياً
والتغامز: تفاعل من الغمز ويُطلق على جسّ الشيء باليد جسّاً مكيناً ،ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالةِ كعوبها .وفي حديث عائشة: « لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمزَ رِجْلَيَّ فقبضتُهما » .
ويطلق الغمز على تحريك الطَّرْف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإِطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه .
وضمير{ مروا} يجوز أن يعود إلى{ الذين أجرموا} فيكون ضمير{ بهم} عائداً إلى{ الذين آمنوا} ،ويجوز العكس ،وأما ضمير{ يتغامزون} فمتمحّض للعود إلى{ الذين أجرموا} .
والمعنى: وإذا مرّ المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أوْ وإذا مرّ الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم ،وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنين عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيراً بمكة حين نزول هذه السورة ،فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يُقرَّعُون به يوم القيامة .