الشر الثالث:{ شر النفاثات في العقد} .
وهذا الشر هو شر السحر ، فإن النفاثات في العقد:هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط ، وينفثن على كل عقدة ، حتى ينعقد ما يردن من السحر .
والنفث:هو النفخ مع ريق ، وهو دون التَّفْل ، وهو مرتبة بينهما .
والنفث:فعل الساحر . فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة ، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق ، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى ، مقترن بالريق الممازج لذلك ، وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور ، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري ، لا الأمر الشرعي .
فإن قيل:فالسحر يكون من الذكور والإناث ، فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور ؟
قيل في جوابه:إن هذا خرج على السبب الواقع ، وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا جواب أبي عبيدة وغيره ، وليس هذا بسديد ، فإن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد بن الأعصم ، كما جاء في «الصحيح » .
والجواب المحقق:إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات ، لا النساء النفاثات .
لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة ، والأرواح الشريرة ، وسلطانه إنما يظهر منها . فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث ، دون التذكير ، والله أعلم .
ففي «الصحيح » عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم طب ، حتى إنه ليُخيَّل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه ، وأنه دعا ربه ، ثم قال:«أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ فقالت عائشة:وما ذاك يا رسول الله ؟ قال:«جاءني رجلان ، فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه:ما وجع الرجل ؟ قال الآخر:مطبوب . قال:من طبه ؟ قال:لبيد بن الأعصم . قال:فيماذا ؟ قال:في مشط ومشاطة ، وجف طلع ذكر ، قال:فأين هو ؟ قال:في ذروان » - بئر في بني زريق - قالت عائشة رضي الله عنها:فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال:«والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رءوس الشياطين ، قالت:فقلت له:يا رسول الله ، هلا أخرجته ؟ قال:«أما أنا فقد شفاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس شرا » . فأمر بها ، فدفنت » .
قال البخاري:وقال الليث وابن عيينة عن هشام:«في مشط ومشاقة » .
ويقال:إن المشاطة:ما يخرج من الشعر إذا مُشِطَ ، والمشاقة:من مشاقة الكتان .
قلت:هكذا في هذه الرواية إنه لم يخرجه ، اكتفاء بمعافاة الله له ، وشفائه إياه .
وقد روى البخاري من حديث سفيان بن عيينة قال:«أول من حدثنا به ابن جريج يقول:حدثني آل عروة ( عن عروة ) ، فسألت هشاما عنه ؟ فحدثنا عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنه:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن . قال سفيان:وهذا أشد ما يكون من السحر ، إذا كان كذا ، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان ، فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي . فقال الذي عند رأسي للآخر:ما بال الرجل ؟ قال:مطبوب قال:ومن طبه ؟ قال:لبيد بن الأعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود . وكان منافقا – قال:وفيم ؟ قال:في مشط ومشاطة ، قال:وأين ؟ قال:في جف طلعة ذكر ، تحت راعوفَة في بئر ذَروان » . قال:فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه ، فقال صلى الله عليه وسلم:«هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين » . قال:فاستخرج . قالت:فقلت:أفلا – أي انتشرت - ؟ قال:«أما الله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا » .
ففي هذا الحديث:أنه استخرجه ، وترجم البخاري عليه:( باب هل يستخرج السحر ؟ ) .
وقال قتادة:قلت لسعيد بن المسيب:رجل به طب ، ويؤخذ عن امرأته ، أيُحَلَّ عنه ويُنْشَر ؟ قال:لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه .
فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما ، فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه:الأول فيه:أنه لم يستخرجه ، وحديث ابن جريج عن هشام فيه «أنه استخرجه » ، ولا تنافي بينهما ، فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه ، ثم دفنه بعد أن شفي .
وقول عائشة رضي الله عنها:«هلا استخرجته ؟ » أي:هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه ؟ فأخبرها بالمانع له من ذلك ، وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك ، فيقع الإنكار ، ويغضب للساحر قومه ، فيحدث الشر ، وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة ، فأمر بها فدفنت ، ولم يستخرجها للناس ، فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة رضي الله عنه .
والذي يدل عليه:أنه رضي الله عنه إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ، ولم يجيء لينظر إليها ثم ينصرف ، إذ لا غرض له في ذلك ، والله أعلم .
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث ، متلقى بالقبول بينهم ، لا يختلفون في صحته ، وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم ، وأنكروه أشد الإنكار ، وقابلوه بالتكذيب ، وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا ، حمل فيه على هشام . وكان غاية ما أحسن القول فيه:أن قال:غلط ، واشتبه عليه الأمر ، ولم يكن من هذا شيء ، قال:لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر ، فإنه يكون تصديقا لقول الكفار:{ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [ الإسراء:47] ،{ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [ الفرقان:7] .
قالوا:وهذا كما قال فرعون لموسى:{ إني لأظنك يا موسى مسحورا} [ الإسراء:101] ، وكما قال قوم صالح له:{ إنما أنت من المسحرين} [ الشعراء:153] ، وكما قال قوم شعيب له:{ إنما أنت من المسحرين} [ الشعراء:175] .
قالوا:فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا . فإن ذلك ينافي حماية الله لهم ، وعصمتهم من الشياطين .
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم ، فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه ، فما للمتكلمين وما لهذا الشأن ؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة ، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة ، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء ، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين .
قال أبو بكر بن أبي شيبة:حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه قال:«سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أياما . قال:فأتاه جبريل ، فقال:إن رجلا من اليهود سحرك ، وعقد لذلك عقدا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها ، فجاء بها ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال . فما ذكر ذلك لليهودي ، ولا رآه في وجهه قط » .
وقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنها «كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدنت إليه اليهود ، فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم- رجل من اليهود- فنزلت هاتان السورتان فيه » .
قال البغوي:وقيل:«كانت مغروزة بالأبر ، فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية:سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، فكلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال » . قال:وروي أنه لبث فيه ستة أشهر ، واشتد عليه ثلاثة أيام ، فنزلت المعوذتان .
قالوا:والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ، ولا نقص في ذلك ، ولا عيب بوجه ما ، فإن المرض يجوز على الأنبياء ، وكذلك الإغماء ، فقد أغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه ، ووقع حين انفكت قدمه ، وجُحِش شِقَّه ، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ، ونيل كرامته ، وأشد الناس بلاء الأنبياء ، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به:من القتل ، والضرب ، والشتم ، والحبس ، فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر ، كما ابتلي بالذي رماه فشجَّه ، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السَّلا وهو ساجد ، وغير ذلك ، فلا نقص عليهم ، ولا عار في ذلك ؛ بل هذا من كمالهم ، وعلو درجاتهم عند الله .
قالوا:وقد ثبت في «الصحيح » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يا محمد اشتكيت ؟ فقال:نعم ، فقال:باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نفس ، أو عين حاسد ، الله يشفيك ، بسم الله أرقيك » ، فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد ، لما اشتكى ، فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره .
قالوا:وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها .
أما قوله تعالى عن الكفار:إنهم قالوا:{ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [ الإسراء:47] ، وقول قوم صالح وشعيب لهما:{ إنما أنت من المسحرين} ، فقيل:المراد به من له سحر ، وهي الرئة ، أي أنه بشر مثلهم ، يأكل ويشرب ، ليس بملك ، ليس المراد به السحر .
وهذا جواب غير مرض ، وهو في غاية البعد ، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ، ولا يعرف هذا في لغة من اللغات ، وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر ، فقالوا:{ ما أنتم إلا بشر مثلنا} [ يس:15] ، و{ أنؤمن لبشرين مثلنا} [ المؤمنون:47] ، و{ أبعث الله بشرا رسولا} [ الإسراء:94] ، وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر ، وهي الرئة ، وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ؟
ثم كيف يقول فرعون لموسى:{ إني لأظنك يا موسى مسحورا} [ الإسراء:101] ، أفتراه ما علم أنه له سحر ، وأنه بشر ؟
ثم كيف يجيبه موسى عليه السلام بقوله:{ إني لأظنك يا فرعون مثبورا} [ الإسراء:102] ، ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى ، وقال:نعم ، أنا بشر أرسلني الله إليك ، كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم:{ إن أنتم إلا بشرا مثلنا} [ إبراهيم:10] ، فقالوا:{ إن نحن إلا بشرا مثلكم} [ إبراهيم:11] ، ولم ينكروا ذلك .
فهذا الجواب في غاية الضعف .
وأجابت طائفة - منهم ابن جرير وغيره -:بأن المسحور هنا هو معلَّم السحر الذي قد علمه إياه غيره . فالمسحور عنده:بمعنى ساحر ، أي عالم بالسحر .
وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة ، وهو أن من عُلَّم السحر يقال له مسحور ، ولا يكاد هذا يعرف في الاستعمال ، ولا في اللغة ، وإنما المسحور من سَحَره غيره ، كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه . وأما من علم السحر ، فإنه يقال له:ساحر ، بمعنى أنه عالم بالسحر ، وإن لم يسحره غيره ، كما قال قوم فرعون لموسى:{ إن هذا لساحر عليم} [ الشعراء:34] ، ففرعون قذفه بكونه مسحورا ، وقومه قذفوه بكونه ساحرا .
فالصواب:هو الجواب الثالث ، وهو جواب صاحب «الكشاف » وغيره:إن «المسحور » على بابه ، وهو من سحر حتى جن ، فقالوا:مسحور ، مثل مجنون ، أي:زائل العقل ، لا يعقل ما يقول ، فإن المسحور الذي لا يتبع:هو الذي فسد عقله ، بحيث لا يدري ما يقول ، فهو كالمجنون ، ولهذا قالوا فيه:{ معلم مجنون} [ الدخان:14] ، فأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض يصاب به الناس ، فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه . وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان ، وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من أتباعهم ، وهو أنهم قد سحروا ، حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون ، بمنزلة المجانين ، ولهذا قال تعالى:{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [ الإسراء:48] ، مثلوك بالشاعر مرة ، والساحر أخرى ، والمجنون مرة ، والمسحور أخرى ، فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه ، فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة ، فهو متحير في أمره ، لا يهتدي سبيلا ، ولا يقدر على سلوكها ، فهكذا حال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، حتى ضربوا له أمثالا ، برأه الله منها ، وهو أبعد عنها ، وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان .
وأما قولكم:إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم ، فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم ، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته ، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس ، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء ، صبروا ورضوا ، وتأسوا بهم ، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من الكمال العاجل ، والعقوبة الآجلة ، فيمحقهم ، بسبب بغيهم وعدوانهم ، فيعجل تطهير الأرض منهم ، فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم ، وله الحكمة البالغة ، والنعمة السابغة ، لا إله غيره ، ولا رب سواه .
وقد دل قوله:{ ومن شر النفاثات في العقد} وحديث عائشة رضي الله عنها المذكور على تأثير السحر ، وأن له حقيقة .
وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم .
وقالوا:إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ، ولا قتل ، ولا حل ، ولا عقد .
قالوا:وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين ، لا حقيقة له سوى ذلك .
وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف ، واتفق عليه الفقهاء ، وأهل التفسير والحديث ، وما يعرفه عامة العقلاء .
والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وحلا وعقدا وحبا وبغضا ونزيفا وغير ذلك من الآثار موجود ، تعرفه عامة الناس ، وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه .
وقوله تعالى:{ من شر النفاثات في العقد} دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء ، لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه .
وأيضا:فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به ، مع أن هذا تغير في إحساسهم ، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم ؟ وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن ؟ فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا ، والمتصل منفصلا ، والميت حيا ، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه ، حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا ، والبغيض محبوبا ، وغير ذلك من التأثيرات
وقد قال تعالى عن سَحَرَة فرعون إنهم:{ سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} [ الأعراف:116] ، فبين سبحانه أن أعينهم سحرت ، وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي ، وهو الحبال والعصي ، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها ، وهي الشياطين ، فظنوا أنها تحركت بأنفسها ، وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ، ولا ترى الجار له ، مع أنه هو الذي يجره ، فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين ، فقلبتها كتقلب الحية . فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها ، والشياطين هم الذين يقلبونها ، وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي ، حتى رأي الحبال والعصي تتحرك ، وهي ساكنة في أنفسها ، ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا ، فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه ، حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به ، وتارة يتصرف في المرئي باستغاثته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها .
وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها ، مثل الزئبق وغيره ، حتى سعت ، فهذا باطل من وجوه كثيرة ، فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا ؛ بل حركة حقيقية ، ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس ، ولا يسمى ذلك سحرا ؛ بل صناعة من الصناعات المشتركة . وقد قال تعالى:{ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [ طه:66] ، ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون لم يكن هذا من السحر في شيء ، ومثل هذا لا يخفى .
وأيضا:لو كان ذلك بحيلة - كما قال هؤلاء - لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق ، وبيان ذلك المحال ، ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها .
وأيضا:فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة ؛ بل يكفي فيها حذاق الصناع ، ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة ، وخضوعه لهم ، ووعدهم بالتقريب والجزاء .
وأيضا:فإنه لا يقال في ذلك:{ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} [ طه:71] ، فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها .
وبالجملة:فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده ، فلنرجع إلى المقصود .