فصل
الشر الرابع:{ شر الحاسد إذا حسد}
وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود ، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه ، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه ، فإن الله تعالى قال:{ ومن شر حاسد إذا حسد} فحقق الشر منه عند صدور الحسد ، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة .
ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد ، كالضارب ، والشاتم ، والقاتل ، ونحو ذلك ، ولكن قد يكون الرجل في طبعه - وهو غافل عن المحسود ، لاه عنه - فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ، وتوجهت إليه سهام الحسد من قبله ، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك . فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه ، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله ، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد .
فقوله تعالى:{ إذا حسد} بيان ؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل .
وقد تقدم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الصحيح رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها «بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نفس ، أو عين حاسد ، الله يشفيك » ، فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد .
ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها ؛ إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه ، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره ، لم يؤثر فيه شيئا ، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت ، واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه ، وقوة نفس الحاسد ، فربما أعطيه وأهلكه ، بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا ، وربما صرعه وأمرضه ، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر .
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة ، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت ، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث ، فتحدث فيها تلك الكيفية السم ، فتؤثر في اللديغ ، وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة ، فتطمس البصر ، وتسقط الحبل ، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر ، وذي الطُّفيتين منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اقتلوهما ، فإنهما يطمسان البصر ، ويسقطان الحبل » .
فإذا كان هذا في الحيات ، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة ، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية ، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها ؟ فلله كم من قتيل ؟ وكم من سليب ؟ وكم من معافى عاد مضنى على فراشه ، يقول طبيبه:لا أعلم داءه ما هو ؟ فصدق . ليس هذا الداء من علم الطبائع . هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع ، وانفعال الأجسام عنها .
وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس ، والمحجوبون منكرون له ، ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه ، وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى ؟ وهل الانفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة ، والآثار الغريبة إلا من الأرواح ، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع ؟ فالصنعة في الحقيقة له ، والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع .
ومن له أدنى فطنة وتأمل لأحوال العالم وقد لطفت روحه ، وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها ، وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها ، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم ، خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون ، وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته ، وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخر ، تشهد آثارها ، وأسبابها غيب عن الأبصار .
فتبارك الله رب العالمين ، وأحسن الخالقين ، الذي أتقن ما صنع ، وأحسن كل شيء خلقه .
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح ؛ بل هو أعظم وأوسع ، وعجائبه أبهر ، وآياته أعجب .
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح ، كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم ؟ فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل ؟ وتلك الصنائع الغريبة ، وتلك الأفعال العجيبة ، وتلك الأفكار والتدبيرات ؟ كيف ذهبت كلها مع الروح ، وبقي الهيكل سواء هو والتراب ؟ وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك ، أو يعاديك ، ويخف عليك ويثقل ، ويؤنسك ويوحشك ، إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر ؟
فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة ، خفيف على قلبك ، حلو عندك ، وآخر لطيف الخلقة ، صغير الجثة ، أثقل على قلبك من جبل ، وما ذاك إلا للطافة روح ذاك ، وخفتها وحلاوتها ، وكثافة هذا ، وغلظ روحه ومرارتها .
وبالجملة:فالعُلَق والوُصَل التي بين الأشخاص ، والمنافرات والبعد ، إنما هي للأرواح أصلا ، والأشباح تبعا .
فصل
والعاين والحاسد يشتركان في شيء ، ويفترقان في شيء:
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه ، وتتوجه نحو من يريد أذاه .
فالعائن:تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته .
والحاسد:يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا .
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده ، من جماد أو حيوان ، أو زرع أو مال ، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه ، وربما أصابت عينه نفسه ، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق ، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين .
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى:{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} [ القلم:51]:إنه الإصابة بالعين ، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنظر إليه قوم من العائنين ، وقالوا:ما رأينا مثله ولا مثل حجته ، وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ، ثم يقول الخادمة:خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها ، فما تبرح حتى تقع ، فتنحر .
وقال الكلبي:كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع جانب خبائة ، فتمر به الإبل ، فيقول:لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، ويفعل به كفعله في غيره ، فعصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحفظه . وأنزل عليه:{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} هذا قول طائفة .
وقالت طائفة أخرى ، منهم ابن قتيبة:ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين ، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد:أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك . قال الزجاج:يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك . وهذا مستعمل في الكلام ، يقول القائل:نظر إلي نظرا قد كان يصرعني .
قال:ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن ، وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهبة ، فيحدون إليه النظر بالبغضاء .
قلت:النظر الذي يؤثر في المنظور:قد يكون بسببه شده العداوة والحسد ، فيؤثر نظره فيه ، كما تؤثر نفسه بالحسد ، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة ، فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه ، فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه ، وتوجهت النفس بكليتها إليه ، فيتأثر بنظره ، حتى إن من الناس من يسقط ، ومنهم من يحم ، ومنهم من يحمل إلى بيته ، وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا .
وقد يكون سببه الإعجاب ، وهو الذي يسمونه بإصابة العين ، وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام ، فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين ، وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين ، فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه ، فيصاب بذلك .
قال عبد الرزاق:عن معمر ، عن هشام بن قتيبة قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«العين حق . ونهى عن الوشم » .
وروى سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عروة ، عن عامر ، عن عبيد بن رفاعة «أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت:«يا رسول الله ، إن ابني جعفر تصيبهم العين ، أفنسترقي لهم ؟ قال:«نعم . فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين » .
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة ، فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته . فهذا أشد من نظر العائن ؛ بل هو جنس من نظر العائن ، فمن قال:إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ، ومن قال:ليس به ، أراد:أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب ، فالقرآن الكريم حق .
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من عين الإنسان » ، فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها .
وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، حدثني حابس بن حية التميمي ، حدثني أبي ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا شيء في الهام ، والعين حق » .
وفيه أيضا:من حديث وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغسلوا » .
وفي الباب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، وهذا حديث صحيح .
والمقصود:أن العائن حاسد خاص . وهو أضر من الحاسد ، ولهذا - والله أعلم - إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن ؛ لأنه أعم . فكل عائن حاسد ولا بد ، وليس كل حاسد عائنا ، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العائن ، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته .
وأصل الحسد:هو بغض نعمة الله على المحسود ، وتمني زوالها .
فالحاسد عدو النعم ، وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها ، ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها ؛ بل هو من خبثها وشرها ، بخلاف السحر ، فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى ، واستعانة بالأرواح الشيطانية ، فلهذا - والله أعلم - قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر ؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن . فالحسد من شياطين الإنس والجن ، والسحر من النوعين .
وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن ، وهو الوسوسة في القلب ، فذكره في السورة الأخرى ، كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى .
فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه ؛ بل هو أذى من أمر خارج عنه ، ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق .
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له ، وقبوله منه ، ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال ، والعزم الجازم ؛ لأن ذلك بسعيه وإرادته ، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه ؛ إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته ، فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة ، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة ، وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة .
ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم ، فإنهم لشدة خبثهم:فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم . وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا ، فقال:{ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [ البقرة:102] .
والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر ، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس ، وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما في موضع غير هذا .
إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين ، وشدة حاجة الخلق إليهما ، وأنه لا يقوم غيرهما مقامهما .
وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى:{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [ النساء:54] ، وفي قوله:{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [ البقرة:109] .
والشيطان يقارن الساحر والحاسد ، ويحادثهما ويصاحبها . ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان ؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس ، وهو في الحقيقة من أتباعه ؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس ، وزوال نعم الله عنهم ، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله ، وأبى أن يسجد له حسدا ،
فالحاسد من جند إبليس . وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه ، وربما يعبده من دون الله تعالى ، حتى يقضي له حاجته ، وربما يسجد له .
وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ، ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ، وكان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب ، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام ، وهم الذين سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي «الموطأ » عن كعب قال:«كلمات أحفظهن من التوراة ، لولاها لجعلتني يهود حمارا:أعوذ بوجه الله العظيم ، الذي لا شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى ، ما علمت منها وما لم أعلم:من شر ما خلق ، وذرأ ، وبرأ » .
والمقصود:أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر ، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود ، والشيطان يقترن به ويعينه ، ويزين له حسده ، ويأمره بموجبه . والساحر بعلمه ، وكسبه ، وشركه ، واستعانته بالشياطين .
فصل
وقول:{ من شر حاسد إذا حسد}يعم الحاسد من الجن والإنس ، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله ، كما حسد إبليس أبانا آدم ، وهو عدو لذريته ، كما قال تعالى:{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [ فاطر:6] ، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن ، والحسد أخص بشياطين الإنس ، والوسواس يعمهما ، كما سيأتي بيانهما ، والحسد يعمهما أيضا ، فكلا الشيطانين حاسد موسوس ، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا .
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم .
وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها:شرا عاما ، وهو شر ما خلق ، وشر الغاسق إذا وقب ، فهذا نوعان .
ثم ذكر شر الساحر والحاسد ، وهما نوعان أيضا ؛ لأنهما من شر النفس الشريرة ، وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده ، وهو الساحر ، وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه:إما بذبح باسمه ، أو بذبح يقصد به هو ، فيكون ذبحا لغير الله ، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق .
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له ، وإن سماه بما سماه به ، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه ، لا لاسمه ولفظه ، فمن سجد لمخلوق وقال:ليس هذا بسجود له ، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة ، كما أقبلها بالنعم ، أو هذا إكرام ، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله ، فليسمه بما شاء .
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به ، وتقرب إليه بما يحب ، فقد عبده ، وإن لم يسم ذلك عبادة ؛ بل يسميه استخداما ، وصدَقَ ، هو استخدام من الشيطان له ، فيصير من خدم الشيطان وعابديه . وبذلك يخدمه الشيطان ، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة ، فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده ، كما يفعل هو به .
والمقصود:أن هذا عبادة منه للشيطان ، وإنما سماه استخداما ، قال تعالى:{ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} [ يس:60] ، وقال تعالى:{ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [ سبأ:40 .41] .
فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين ، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ، ولبئس المولى ، ولبئس العشير ، فهذا أحد النوعين .
والنوع الثاني:من يعينه الشيطان ، وإن لم يستعن هو به ، وهو الحاسد ؛ لأنه نائبه وخليفته ؛ لأن كليهما عدو نعم الله ، منغصها على عباده .
فصل
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله:{ إذا حسد} ؛ لأن الرجل قد يكون عنده حسد ، ولكن يخفيه ، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما ، لا بقلبه ، ولا بلسانه ، ولا بيده ؛ بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ، ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله ، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد ، إلا من عصمه الله .
وقيل للحسن البصري:أيحسد المؤمن ؟ قال:ما أنساك لإخوة يوسف عليهم السلام .
لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها ؛ بل يعصيها طاعة لله ، وخوفا وحياء منه ، وإجلالا له ، أن يكره نعمه على عباده ، فيرى ذلك مخالفة لله ، وبغضا لما يحب الله ، ومحبة لما يبغضه ، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ، ويلزمها بالدعاء للمحسود ، وتمني زيادة الخير له ، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده ، ورتب على حسده مقتضاه:من الأذى بالقلب واللسان والجوارح ، فهذا الحسد المذموم ، هذا كله حسد تمني الزوال .
[ مراتب الحسد]
وللحسد ثلاث مراتب:إحداها هذه .
والثانية:وهي تمني استصحاب عدم النعمة ، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة ؛ بل يحب أن يبقى على حاله من جهله ، أو فقره ، أو ضعفه ، أو شتات قلبه عن الله ، أو قلة دينه ، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب ، فهذا حسد على شيء مقدر ، والأول حسد على شيء محقق ، وكلاهما حاسد ، عدو نعمة الله ، وعدو عباده ، وممقوت عند الله تعالى ، وعند الناس ، ولا يسود أبدا ، ولا يواسي ، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم ، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدا إلا قهرا ، يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها ، فهم يبغضونه ، وهو يبغضهم .
والحسد الثالث:حسد الغبطة ، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود ، من غير أن تزول النعمة عنه ، فهذا لا بأس به ، ولا يعاب صاحبه ؛ بل هذا قريب من المنافسة ، وقد قال تعالى:{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [ المطففين:26] ، وفي «الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا حسد إلا في اثنتين:رجل آتاه الله مالا ، وسلطه على هلكته في الحق . ورجل آتاه الله الحكمة ، فهو يقضي بها ويعلمها الناس » ، فهذا حسد غبطة ، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه ، وحب خصال الخير ، والتشبه بأهلها ، والدخول في جملتهم ، وأن يكون من سباقهم وعليتهم ومصلهم لا من فساكلهم فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة ، مع محبته لمن يغبطه ، وتمني دوام نعمة الله عليه ، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما .
فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد ، فإنها تتضمن التوكل على الله ، والالتجاء إليه ، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة ، فهو مستعيذ بولي النعم وموليها ، كأنه يقول:يا من أولاني نعمته ، وأسداها إلي ، أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ، ويزيلها عني ، وهو حسب من توكل عليه ، وكافي من لجأ إليه ، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ، ويجبر المستجير ، وهو نعم المولى ونعم النصير . فمن تولاه واستنصر به ، وتوكل عليه ، وانقطع بكليته إليه ، تولاه وحفظه وحرسه وصانه ، ومن خافه واتقاه أمّنه مما يخاف ويحذر . وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [ الطلاق:2 .3] ، فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته ، فإن الله تعالى بالغ أمره ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، ومن لم يخفه أخافه من كل شيء ، وما خاف أحدا غير الله إلا لنقص خوفه من الله ، قال تعالى:{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [ النحل:98 .100] ، وقال:{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران:175] ، أي يخوفكم بأوليائه ، ويعظمهم في صدوركم ، فلا تخافوهم ، وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم .
فصل
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدها:التعوذ بالله تعالى من شره ، واللجوء والتحصن به واللجأ إليه . وهو المقصود بهذه السورة ، والله تعالى سميع لاستعاذته ، عليم بما يستعيذ منه ، والسمع هنا المراد به:سمع الإجابة ، لا السمع العام ، فهو مثل قوله:«سمع الله لمن حمده » ، وقول الخليل صلى الله عليه وسلم:{ إن ربي لسميع الدعاء} [ إبراهيم:39] ، ومرة يقرنه بالعلم ، ومرة بالبصر ، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك ، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله تعالى يراه ، ويعلم كيده وشره ، فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته ، أي مجيب ، عليم بكيد عدوه ، يراه ويبصره ، لينبسط أمل المستعيذ ، ويقبل بقلبه على الدعاء .
وتأمل حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ «السميع العليم » في الأعراف وحم السجدة .
وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ «السميع البصير » في سورة حم المؤمن . فقال:{ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} [ غافر:56] ؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر ، وأما نزع الشيطان فوساوس ، وخطرات يلقيها في القلب ، يتعلق بها العلم ، فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها ، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ، ويدرك بالرؤية . والله أعلم .
السبب الثاني:تقوى الله ، وحفظه عند أمره ونهيه ، فمن اتقى الله تولى الله حفظه ، ولم يكله إلى غيره ، قال تعالى:{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} [ آل عمران:120] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه:«احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك » .
فمن حفظ الله حفظه الله ، ووجده أمامه أينما توجه ، ومن كان الله حافظه وأمامه فمن يخاف ؟ ولمن يحذر ؟
السبب الثالث:الصبر على عدوه ، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا . فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه ، والتوكل على الله ، ولا يستطل تأخيره وبغيه ، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود ، يقاتل به الباغي نفسه ، وهو لا يشعر ، فبغيه سهام يرميها من نفسه ، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي ، دون آخره ومآله ، وقد قال تعالى:{ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله} [ الحج:60] ، فإذا كان الله قد ضمن له النصر ، مع أنه قد استوفى حقه أولا ، فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه ؛ بل بغى عليه وهو صابر ؟ وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم ، وقد سبقت سنة الله:أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكا .
السبب الرابع:التوكل على الله ، من يتوكل على الله فهو حسبه ، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم ، وهو من أقوى الأسباب في ذلك ، فإن الله حسبه ، أي كافيه ، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ، ولا يضره إلا أذى لا بد منه ، كالحر والبرد ، والجوع والعطش ، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا .
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له ، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه ، قال بعض السلف:جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده ، فقال:{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [ الطلاق:3] ولم يقل:نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال ؛ بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه ، وواقيه ، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله ، وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك ، وكفاه ونصره .
وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده ، وعظم منفعته ، وشدة حاجة العبد إليه في «كتاب الفتح القدسي » ، وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة ، أنه من مقامات العوام ، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة ، وبينا أنه من أجل مقامات العارفين ، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد ، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله .
وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد ، والعائن ، والساحر ، والباغي .
السبب الخامس:فراغ القلب من الاشتغال به - سبحانه - والفكر فيه ، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له ، فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه .
وهذا من أنفع الأدوية ، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره ، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه ، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه ؛ بل انعزل عنه لم يقدر عليه ، فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه ، حصل الشر ، وهكذا الأرواح سواء ، فإذا علق روحه وشبثها به ، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما ، لا يفتر عنه ، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا ، فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر ، حتى يهلك أحدهما ، فإذا جبذ روحه عنه ، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به ، وأن لا يخطره بباله ، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر ، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به ، بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا ، فإن الحسد كالنار ، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا .
وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية ، وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه ، وتعلق روحه به ، ولا يرى شيئا ألم لروحه من ذلك ، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة ، التي رضيت بوكالة الله لها ، وعلمت أن نصره له خير من انتصارها هي لنفسها ، فوثقت بالله ، وسكنت إليه ، واطمأنت به ، وعلمت أن ضمانه حق ، ووعده صدق ، وأنه لا أوفى بعهده من الله ، ولا أصدق منه قيلا ، فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم ، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها ، أو نصر مخلوق مثلها لها ، ولا يقوى على هذا إلا:
بالسبب السادس:وهو الإقبال على الله ، والإخلاص له ، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه ، وأمانيها تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا ، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية ، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب ، والتقرب إليه وتملقه وترضيه ، واستعطافه وذكره ، كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه ، فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره ، ولا روحه انصرافا عن محبته ، فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه ، والطريق إلى الانتقام منه ، والتدبير عليه ؟ هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله ، وطلب مرضاته ؛ بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه:إياك وحمى الملك ، اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ، ونزل بها ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك ، وأدار عليه الحرس ، وأحاطه بالسور ؟ قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس:أنه قال:{ فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [ ص:81 . 82] ، فقال تعالى:{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [ الحجر:42] ، وقال:{ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [ النحل:99 . 100] ، وقال في حق الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم:{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [ يوسف:24] .
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن ، وصار داخل اليَزَك ، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به ، ولا ضيعة على من آوى إليه ، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه:{ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [ الجمعة:4] .
السبب السابع:تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه .
فإن الله تعالى يقول:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [ الشورى:30] ، وقال لخير الخلق ، وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم:{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [ آل عمران:165] .
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه ، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها ، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره ، وفي الدعاء المشهور:«اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لم لا أعلم » .
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه ، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب .
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه ، فقال له:قف حتى أدخل البيت ، ثم أخرج إليك ، فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب ، وأناب إلى ربه ، ثم خرج إليه فقال له:ما صنعت ؟ فقال:تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي .
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها ، فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها ، فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح .
وعلامة سعادته:أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه ، فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها ، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به ؛ بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه ، والله يتولى نصرته وحفظه ، والدفع عنه ولا بد . فما أسعده من عبد ، وما أبركها من نازلة نزلت به ، وما أحسن أثرها عليه ، ولكن التوفيق والرشد بيد الله ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، فما كل أحد يوفق لهذا . لا معرفة به ، ولا إرادة له ، ولا قدرة عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
السبب الثامن:الصدقة والإحسان ما أمكنه ، فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ودفع العين ، وشر الحاسد ، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به ، فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق ، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد ، وكانت له فيه العاقبة الحميدة .
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته ، عليه من الله جُنَّة واقية ، وحصن حصين .
وبالجملة:فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها .
ومن أقوى الأسباب:حسد الحاسد والعائن ، فإنه لا يفتر ولا يني ، ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود ، فحينئذ يبرد أنينه ، وتنطفئ ناره ، لا أطفأها الله ، فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها ، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله ، وهو كفران النعمة ، وهو باب إلى كفران المنعم .
فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه ، فمن لم
يكن له جند ولا عسكر ، وله عدو ، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه ، وإن تأخرت مدة الظفر ، والله المستعان .
السبب التاسع:وهو من أصعب الأسباب على النفس ، وأشقها عليها ، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله ، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه ، فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا ، وله نصيحة ، وعليه شفقة ، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون ، فضلا عن أن تتعاطاه .
فاسمع الآن قوله عز وجل:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [ فصلت:34 . 36] ، وقال:{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} [ القصص:54] .
وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي إذ ضربه قومه حتى أدموه ، فجعل يَسْلُت الدم عنه ، ويقول:«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » ، كيف جمع في هذه الكلمات أربعا من الإحسان ، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه ؟
أحدها:عفوه عنهم .
والثاني:استغفاره لهم .
الثالث:اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون .
الرابع:استعطافه لهم بإضافتهم إليه ، فقال:«اغفر لقومي » كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به:هذا ولدي ، هذا غلامي ، هذا صاحبي ، فهبه لي .
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ، ويطيبه إليها وينعمها به .
اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله ، تخاف عواقبها ، وترجوه أن يعفو عنها ، ويغفرها لك ، ويهبها لك ، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة ، حتى ينعم عليك ويكرمك ، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله ، فإذا كنت ترجو هذا من ربك ، أن يقابل به إساءتك ، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه ، وتقابل به إساءتهم ؟ ليعاملك الله هذه المعاملة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك ، جزاء وفاقا ، فانتقم بعد ذلك ، أو اعف ، وأحسن أو اترك ، فكما تدين تدان ، وكما تفعل مع عباده يفعل معك .
فمن تصور هذا المعنى ، وشغل به فكره ، هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه .
هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي شكى إليه قرابته ، وأنه يحسن إليهم ، وهم يسيئون إليه ، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا يزال معك من الله ظهير ، ما دمت على ذلك » .
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ، ويصيرون كلهم معه على خصمه .
فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير ، وهو مسيء إليه ، وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء . وذلك أمر فطري ، فطر الله عليه عبيده ، فهو بهذا الإحسان ، قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ، ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا .
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين:إما أن يملكه بإحسانه ، فيستعبده وينقاد له ، ويذل له ، ويبقى الناس إليه ، وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره ، إن أقام على إساءته إليه . فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة . والله هو الموفق المعين .
بيده الخير كله ، لا إله غيره ، وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه .
وفي الجملة:ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة ، سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى .
السبب العاشر:وهو الجامع لذلك كله ، وعليه مدار هذه الأسباب ، وهو تجريد التوحيد ، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح ، وهي بيد محركها ، وفاطرها وبارئها ، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، فهو الذي يحسن عبده بها ، وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه ، قال تعالى:{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} [ يونس:107] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:«واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك » .
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه ، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى ؛ بل يفرد الله بالمخافة ، وقد أمنه منه ، وخرج من قلبه اهتمامه به ، واشتغاله به ، وفكره فيه ، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلا ، واشتغالا به عن غيره ، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه ، وخوفه منه ، واشتغاله به ، من نقص توحيده ، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل ، والله يتولى حفظه والدفع عنه ، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا ، فإن كان مؤمنا فالله يدافع عنه ولا بد ، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه ، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع ، وإن مزج ، مزج له ، وإن كان مرة ومرة فالله له ، مرة ومرة ، كما قال بعض السلف:من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ، ومن كان مرة ومرة ، فالله له مرة ومرة .
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين ، قال بعض السلف:من خاف الله خافه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء .
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر ، وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه ، وتوكله عليه ، وثقته به ، وأن لا يخاف معه غيره ؛ بل يكون خوفه منه وحده ، ولا يرجوا سواه ، بل يرجوه وحده ، فلا يعلق قلبه بغيره ، ولا يستغيث بسواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ومتى علق قلبه بغيره ، ورجاه وخافه:وكل إليه وخذل من جهته ، فمن خاف شيئا غير الله سلط عليه ، ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته ، وحرم خيره ، هذه سنة الله في خلقه:{ ولن تجد لسنة الله تبديلا} [ الأحزاب:62] .
فصل
فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة المهمة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ، ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير ، وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنفث في العقد .
وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق:
ففرقة:أنكرت تأثير هذا وهذا ، وهم فرقتان:
فرقة:اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن ، وأنكرت تأثيرهما البتة .
وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والتقوى والتأثيرات .
وفرقة:أنكرت وجودهما بالكلية ، وقالت:لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس ، وصفاته وأعراضه فقط . ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به ، وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام ، وهو قول شاذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف ، وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة .
الفرقة الثانية:أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن ، وأقرت بوجود الجن والشياطين ، وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم .
الفرقة الثالثة:بالعكس ، أقرت وجود النفس الناطقة المفارقة البدن ، وأنكرت وجود الجن والشياطين ، وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها ، وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم .
وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ، ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها ، بغير واسطة شيطان منفصل ، وابن سينا وأتباعه على هذا القول ، حتى إنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب .
ويقولون:إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم .
وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل ، وليسوا من أتباع الرسل جملة .
الفرقة الرابعة:وهم أتباع الرسل ، وأهل الحق:أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن ، وأقروا بوجود الجن والشياطين ، وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما وشرهما ، واستعاذوا بالله تعالى منه ، وعلموا أنه لا يعيذهم منه ، ولا يجيرهم إلا الله .
فهؤلاء أهل الحق ، ومن عداهم مفرط في الباطل ، أو معه باطل وحق . والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
فهذا ما يسر الله تعالى من الكلام على سورة الفلق .