{النَّفّاثَاتِ}: النفث: شبيه بالنفخ .
{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور في ما يربطنه من خيوط ونحوها ،وينفخن في العقد لتأكيد السحر .
هل النفث في العقد يمثل حقيقة تأثيريّة في الإنسان ؟
ولكن هل هذه الآية تدلّ على أن النفث في العقد الذي يُعتبر مظهراً من مظاهر السحرفي ما يقولونيمثل حقيقةً تأثيريةً في الإنسان الآخر ،بحيث ينتج الشرّ الذي يستعيذ الإنسان منه بالله ،أم أنه يمثِّل حالةً تخييليةً تترك تأثيراتها في المشاعر بطريقة الإيحاء الذاتي أو بما يشبه ذلك ؟
ربما يرى بعض المفسرين أن للسحر في هذا النوع من الأفعال حقيقةً ،وذلك في حديث الله عن الملكين هاروت وماروت اللذين كانا يعلّمان النّاسَ السِّحرَ:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه} [ البقرة:102] ،وذلك بالوسائل التي قد يحدثون من خلالها العداوة والبغضاء بين الزوجين ؛لأن ذلك هو المعنى الذي توحي به الآية .ولكننا نلاحظ أن الله يعقّب هذه الفقرة من الآية بقوله:{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [ البقرة:102] ما قد يدل على أن التأثير السلبي ليس حاسماً بحيث يكون نتيجةً للأفعال أو الكتابات أو نحو ذلك ؛بل ربما يقارن ذلك بعض الأمور التي تتحرك في الواقع بإرادة الله .وقد يكون هذا الضرر من خلال بعض النتائج النفسية الشعورية لما يحيط بالموضوع .
وقد يرى آخرون أن هذه الأمور قد تكون من ألاعيب الشعوذة ،في ما يلعب به الكثيرون من النساء والرجال على البسطاء من الناس من الأشخاص المثقلين بأحلامهم وآلامهم ومشاكلهم ،بحيث يبحثون لها عن بعض الأجواء الغيبية الغامضة التي لا يجدون لها أيّ حلٍّ في ما يملكونه من وسائل الحلول ،فيلجأون إلى أمثال هؤلاء المشعوذين الذين يجمعون حولهم في أذهان الناس بعض التهاويل ،من ادّعاء تسخير الجان ،أو معرفة بعض أسرار الغيب ،أو السيطرة على بعض الأوضاع ،أو الوسائل المحركة لبعض الأوضاع الضاغطة على إرادة الناس .
ويرى هؤلاء أن الشرّ قد لا يكون حاصلاً من خلال النفث في العقد ؛بل من خلال الأجواء التي يثيرها ذلك في الوعي الداخلي للإنسان ،بحيث يترك آثاره من خلال الإيحاءات الخفية التي يتقنها هؤلاء بوسائلهم الخاصة .
وربما كان هذا الوضع التخييلي الإيحائي مشابهاً للوضع التخييلي الذي يسحر أعين الناس في ما حدثنا الله عن السحرة من قوم فرعون في ما قدّموه من السحر الذي أرادوا أن يتحدوا به موسى ،وذلك في قوله تعالى:{سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظيمٍ} [ الأعراف:116] وقوله تعالى حكايةً عن رد موسى عليهم:{مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [ يونس:81] وقوله تعالى حكايةً عن حالة موسى الشعورية في مواجهة سحر السحرة:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [ طه:66] الأمر الذي يؤكد أن المسألة السحرية ليست مسألةً حقيقية في تغيير الواقع ؛بل هي مسألة تخييليّةٌ تمثل نوعاً من أنواع إثارة الخيالات والتهاويل والإيحاءات الخفية .
وقد جاء في مجمع البيان للطبرسي ما يؤكد هذه الفكرة ويوضحها بشكلٍ آخر: «وإنما أمر بالتعوّذ من شر السحرة لإيهامهم أنهم يُمرضون ويُصحّون ويفعلون شيئاً من النفع والضرر والخير والشرّ ،وعامة الناس يصدقونهم ،فيعظم بذلك الضرر في الدين ،ولأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن ويعلمون الغيب ،وذلك فسادٌ في الدين ظاهرٌ ،فلأجل هذا الضرر أمر بالتعوذ من شرّهم »[ 5] .
وقد ذكروا هناك معنًى آخر للنفّاثات في العقد ،وهو ما نقله مجمع البيان عن أبي مسلم ،قال: «النفاثات: النساء اللاتي يملن آراء الرجال ،ويصرفنهم عن مرادهم ،ويرددنهم إلى آرائهن ،لأن العزم والرأي يعبّر عنهما بالعقد ،فعبّر عن حلها بالنفث ،فإن العادة جرت أن من حلّ عقداً نفث فيه »[ 6] .